كتبت سابقا مقالا بعنوان (مسلسل الإمام أحمد والإرهاب الفكري)، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فلا بد أن نذكر موضوع التسامح الديني في التاريخ الإسلامي، وحاجتنا إلى إبرازه لشبابنا بأفضل صورة، وليس هناك أفضل لإبرازه من العمل الفني، لقد عاشت الدولة الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى هامشا كبيرا من التعايش بين مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية وغير الإسلامية، وكان هذا التسامح والتعايش من أهم أسباب قيام النهضة العظمى في بواكير التاريخ الإسلامي.

ففي العهد الأموي لم يمنع الاختلاف الديني غير المسلمين من تولي أعظم المناصب، فقد اتخذ معاوية سرجون بن منصور السرياني المسيحي مسؤولا عن جميع شؤون الدولة المالية، وفي عهد ابنه يزيد ازداد نفوذ سرجون، يقول الطبري: (وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور الرومي)؛ وفي آخر العصر الأموي ظهر حفيد سرجون يوحنا الدمشقي، وكان يناقش المسلمين بكل حرية، ودون نقاشاته مع المسلمين باليونانية، ولا تزال كتبه إلى اليوم، ولم يتم منعه أو تكميم فمه؛ ولا ننسى الشاعر المسيحي الأخطل الذي نال مكانة عظيمة في البلاط الأموي لم ينلها شاعر غيره؛ أما في العصر العباسي فنرى أبا العلاء المعري يرسل قصائده التي تعبر عن توجهه اللاديني ويتناقلها الرواة، ولم يقم أحد لا على المستوى الرسمي أو الشعبي بقتله أو سجنه، بل ولا حتى منعه من نشر قصائده، وإنما اكتفوا بالرد عليه بالحجة والبرهان؛ وكلنا نعرف قصة الطبيب أبوبكر الرازي وبناء الخليفة المقتدر بيمارستانا له في بغداد، لكن الذي غيب عن أجيالنا أن هذا الطبيب كان لا دينيا، ورغم ذلك استقدمه الخليفة واستقبله بحفاوة، وعينه رئيسا لأكبر وأهم مستشفى في الدولة؛ هذا عند غير المسلمين، أما مذاهب المسلمين وفرقهم فقد كانت مساجد المسلمين تعج بحلقات العلم من جميع المذاهب دون تمييز؛ ففي المسجد الذي توجد فيه حلقة لشيخ سني توجد بجانبه حلقة لشيخ شيعي، وأخرى لشيخ معتزلي، وأخرى لشيخ جهمي... إلخ، وكانوا يتناقشون، وتجري بينهم المناظرات بكل حرية، ولم تكن السلطة تفرق مذهبا عن آخر، ولعل ما قاله القاضي يحيى بن أكثم للخليفة المأمون حينما أراد لعن معاوية على المنابر خير ما يمثل حال السلطة السياسية مع مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى، يذكر ابن طيفور في كتابه بغداد أن المأمون لما عزم على لعن معاوية قال له يحيى بن أكثم: إن العامة لا تحتمل هذا لاسيما أهل خراسان، ولا تأمن أن تكون لهم نفرة، وإن كانت لم تدر ما عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة.

ومن الطرائف في هذا الموضوع ما ذكره الجاحظ في البيان والتبيين، قال: ولم ير الناس أعجب حالا من الكميت والطرماح، كان الكميت عدنانيا عصبيا، وكان الطرماح قحطانيا عصبيا، وكان الكميت شيعيا من الغالية، وكان الطرماح خارجيا من الصفرية، وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطرماح يتعصب لأهل الشام، وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قط، ثم لم يجر بينهما صرم ولا جفوة، ولا إعراض ولا شيء مما تدعو هذه الخصال إليه، ولم ير الناس مثلهما إلا ما ذكروا من حال عبدالله بن يزيد الإباضي وهشام بن الحكم الرافضي، فإنهما صارا إلى المشاركة بعد الخلطة والمصاحبة.

وفي الأخير نوجه السؤال للقنوات التلفزيونية متى سنرى مسلسلا يعرض لشبابنا المتحمس المندفع هذه النماذج الراقية؟