أزعم أن شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبدالسلام بن تيمية ـ رحمه الله ـ لم يدرس دراسةً وافية كاملة، وأزعم أن تراثه ما يزال أرضًا بكرًا لمزيد من الأبحاث، وأن هناك جوانب من فكره تنتظر باحثين جادّين يتفرغون لها. ولعلي لا أكون ذا حيفٍ في الحكم، إذا ادعيتُ أن كثيرًا من أتباع ابن تيمية حبسوه في قضايا محدّدة، أساؤوا إليه بها ولم يحسنوا، وربطوا اسمه بالتطرف والعنف والإرهاب والقسوة، ولم يلتفتوا إلى جوانب أخرى من تراثه جديرة بالتأمل والنظر والبحث.

وقد خطر لي في هذه المقالة أن أنقل بعض أقوال ابن تيمية في الحبّ، مشيرًا إلى أن له قاعدة مضمّنة في كتاب جامع الرسائل، الذي حققه الدكتور محمد رشاد سالم.

يمكن الزعم بأن لابن تيمية نظرات «فلسفية» في الحب، ربما لا يكون هو مبتكرها، وربما يكون أفادها من كتب الفلسفة في زمانه، ولعلّي هنا أنقل شيئًا من نظراته تلك؛ علّ قارئًا تصيبه الحماسة فيكتب عن ذلك بشيء من التوسع.

يرى ابن تيمية أن الحب والإرادة أصل كل حركة وفعل في العالَم؛ ذاك أن حبّ الشيء يقتضي إرادتَه، فمن أحبّ شيئًا لا بدّ أن يريده، ويصرّح تصريحًا بأن «وجود الفعل لا يكون إلا عن محبة وإرادة»، ويؤكد أن «الإنسان لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفًا من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح؛ أو بالخوف من الضرر».

ويرى ابن تيمية أن حب الأشياء قسمان؛ حبّ لها لذاتها، وحبّ لما تؤدي إليه؛ فقد يفعل الإنسان بعض الأشياء التي يكرهها «من بعض الوجوه»، لكنه يحبها ويريدها من الوجه الذي يحقق به نفعًا أعظم، ومثال ذلك شرب الإنسان للدواء الكريه، فهو كاره له من بعض الوجوه كسوء طعمه مثلًا، غير أنه يحبّه ويريده من حيث إنه يؤدي إلى زوال علّته، وتحقق معافاته من مرضه.

أما الأشياء التي تُحَبُّ لذاتها، فقد نفى ابن تيمية أن هناك شيئًا في الوجود يمكن أن يُحَبّ لذاته، إلا الله تعالى، فهو الذي يُحبُّ لذاته فقط. وموقف ابن تيمية هنا شبيه بما روي عن رابعة العدويّة في محبتها لله.

ويؤكد ابن تيمية أنه كلما قويَ الحبّ قويت الإرادة، وكلّما كان الحب كاملًا وتامًّا، كانت الإرادة قاطعة وجازمة في حصول المحبوبات، وبهذا تكون قوة الإرادة تابعة لقوة المحبّة.

بناءً على هذا الأصل، يرى ابن تيمية أن أصل الإيمان هو التصديق بالمحبة، أي التصديق ممتزجًا بمحبّة الله، وحين يحب المؤمن ربّه، تتجه حركاته القلبية والجسدية في هذا الاتجاه، وبهذا يسير في طريق الله تعالى راغبًا في مرضاته. وحين يمتلئ قلب المؤمن حبًا لله تعالى، ويأخذ عليه هذا الحب مجامع قلبه لا يزاحمه في محبته أحد. يعني المحبة الإيمانية، محبّة الله والتعبّد. ولهذا يقرر ابن تيمية أن العبادة مبنية على أمرين: تمام المحبّة، وتمام الذلّ والخضوع؛ «فالحب الخلي عَن ذل والذل الخلي عَن حب لَا يكون عبَادَة وَإِنَّمَا الْعِبَادَة مَا يجمع كَمَال الْأَمريْنِ» كما يقول.

فإذا أحب العبدُ تمام الحبّ، وخضع غاية الخضوع؛ فلا ينبغي لهذا أن يكون إلا لله، وإذا تحقق هذا الركنان لغير الله، فذلك هو الشرك والكفر والعياذ بالله تعالى.

ويؤكد ابن تيمية أن «الْمُحب يطْلب المحبوب والمحبوب يطْلب الْمُحب بانجذاب المحبوب، فَإِذا كَانَا متحابين صَار كل مِنْهُمَا جاذبًا مجذوبًا من الْوَجْهَيْنِ فَيجب الِاتِّصَال». وهذا شبيه بكلام المتصوّفة سواءً بسواء.

وقد يحب الإنسان حبًا فاسدًا يسبب له المضرة والشقاء، وقد يحب حبًا نافعًا صالحًا يسبب له السعادة والهناء، وهذه هي آثار المحبة، وفي هذا يقول: «فالمحبة لها آثار وتوابع، سواء كانت صالحة محمودة نافعة أم كانت غير ذلك لها وجد وحلاوة وذوق ووصال وصدود ولها سرور وحزن وبكاء. والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة. والضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره وهو الشقاء.

ومعلوم أن الحي العالم لا يختار أن يحب ما يضره، لكن يكون ذلك عن جهل وظلم؛ فإن النفس قد تهوى ما يضرها ولا ينفعها، وذلك ظلم منها لها، وقد تكون جاهلة بحالها بأن تهوي الشيء وتحبه بلا علم منها بما في محبته من المنفعة والمضرة وتتبع هواها، وهذا حال من اتبع هواه بغير علم».

ولكن لو كان الحب زائدًا عن الحدّ الطبيعي فقد يؤدي هذا إلى الهلاك، ومن هنا فلا بد من تحقق قيمة العدل مع الحب، لأن الحب قد يؤدي إلى الجور، ومن ذلك محبة أحد الأبناء أكثر من الآخر، ومحبة إحدى الزوجات أكثر من الأخرى... إلخ.

هذا شيء قليل مما قاله ابن تيمية عن الحب، وأحسب أن هذه النصوص تحتاج إلى قراءة معمّقة، وهو جانب لم يوضع بعد هدفًا لدراسة فلسفية تستجلي موقف ابن تيمية من هذا الموضوع.