«أنا لست معك في الرأي، لكنني مستعد للدفاع عن حقك في أن تعارضني». سيطرت هذه الجملة على ذهني عندما بدأت التفكير في كتابة هذا المقال، وهي منسوبة إلى الفيلسوف الفرنسي الساخر فولتير، وقلت في نفسي: عسى ألا يكون اختلافي مع الذين لا يروق لهم موضوع هذا المقال، نوعا من فرض الرأي الذي أهرب منه -متمثلا بجملة فولتير - ما استطعت إلى الهروب سبيلا.

نُصدم -أحيانا - عند قراءة ردود الأفعال الغاضبة على مقال ما، وتمتزج هذه الصدمة بشعور تؤكده طبيعة الردود، بأن هذه الردود الحشدية المتوتّرة ليست عفوية أبدا، وإنما هي نتيجة فعل ممنهج هدفه تصفية الحساب مع الكاتب، أو تجميع الإساءات والشتائم الموجهة إليه لإسقاطه من أعين الناس، أو التأثير عليه وثنيه عن جرأته، أو الخوف مما يحدثه رأيه من تنوير مؤثر على امتيازات فئات معينة.

بعض المقالات التي يتعرض كاتبوها إلى الحملات، ليست صادمة أو مصادمة بالقدر الذي يوازي حجم الهجوم،

وقد لا تتعلق موضوعاتها بثابت عقدي، ولا تكون ذات تأثيرات سلبية على الوحدة الوطنية، أو تؤدي إلى الإخلال بالأمن والاستقرار، إذ لا تعدو أن تكون «رأيا» بشريا يحتمل الإصابة والخطأ، وعلى الرغم من ذلك تتعرض وأصحابها إلى التشنيع والشتم والاتهامات المجانية، مما يحيل إلى وجود أسباب غير موضوعية تقود إلى تلك الحدّية في الردود.

يحق لكلّ ذي رأي أن يقول رأيه في أي مقال، وفي المقابل يحق له أن يصدح برأيه في ردود الأفعال التي تلت نشر هذا المقال أو ذاك، وعندي أن الحملات الشتائمية التي تلي نشر أنواع معينة من المقالات ناجمة عن خلل كبير في تقبّل «الرأي»، وهو ما أصفه بأنه خلل كبير؛ لأنه يتسم بالمصادرة التامة، والفرض الكامل، وإغلاق أبواب الحوار كلّها، فضلا عما يصحبها من التحريض على صاحب الرأي، والمطالبة بمحاسبته على رأيه المجرد، مما يعني أن وراء الأكمة أهدافا أكبر من الأهداف الظاهرة وأهمّ، وهي -في الغالب- أهداف متعلقة بساسة غير ظاهرين، تقوم أدبياتهم وطرائق عملهم على إظهار غير ما يبطنون، أو بالأحرى؛ تقوم على «النفاق» بوصفه منهج تفكير وعمل.

عند التشخيص الظاهري للحالة، نجدنا أمام اختلاف مفسد للود، وصانع للبغضاء، وقائم على التصنيف، وقامع للرأي، ومنتج للخوف، وقاتل للتفكير، ومانع للحوار، ورافض للتبصّر بأشكاله كلّها، وهي سمات تقود مجتمعة إلى التخلف بمعناه المباشر، وبإيحاءاته وتداعياته السلبية جمعيها؛ لأن الجامع بين طرائق الرفض هذه، هو فرض الرأي السائد بالقوة على كل من يعرض رأيه بالحسنى، وذلك كله يؤكد أن صناع التصنيف يقفون وراء هذه الحملات لحاجات في نفوس يعاقيب كثيرين نكاد نراهم ونكاد نعرفهم دون أن نعرفهم أو نراهم، لأننا نعجز عن الإثبات، بسبب اعتمادهم على سياسة التخفي، وادعاء أسباب غير الأسباب الحقيقية للأفعال.

أجزم بأن عدم التحسس من نشر آراء تتعلق بمسائل قابلة للخلاف والاختلاف، علامة من علامات صحة المجتمعات، وسبب رئيس من أسباب قوة الأنظمة، ودليل واضح من دلائل ثقة الدول في وعي مواطنيها، وإشارة بيّنة إلى حضارية الدولة والمجتمع، وإغلاق مُحكم للأبواب التي يمكن أن تتسلل منها تقارير تجار الحقوق الدوليين، وأدعياء حرية الرأي التابعين لأنظمة لا تعرف من حرية الرأي سوى طرائق استخدامها في الإساءة إلى وطننا.

أجزم بذلك كله؛ لأننا أمام قضايا مكررة في الأعمّ منها، والبدهي أن نختلف حولها بالطرق «المحترمة» دون إقصاء، ودون تكميم أفواه، ودون تحريض، ودون مطالبات بالمحاسبة، هي في الأصل مبنية على «هاشتاقات» شعبوية يكتب فيها البَر والفاجر، والعدو المتربّص الهادف إلى فُرقتنا قبل الصديق الواهم، والجاهل التابع قبل الغِر المغرور.

وحين يكون البدهي أن نختلف بالطرق «المحترمة»، ويكون الواقع مخالفا لهذا البدهي، فإن للفاعلين أهدافا غير ظاهرة، جماعها صناعة الاحتقانات الشعبية، وتكريس أسباب الشتات، ومن الوعي أن نستوعب ذلك، ونقف ضده بكل ما أوتينا من قدرات.

إن فرض الرأي الواحد بالقوة، على من يعرض رأيه المتزن بالحسنى، طامة فكرية ووطنية كبرى، وخطأ غير محسوب العواقب، وتتبعه في الخطأ -بطبيعة الفعل- المطالبة بمحاسبة كل من يجهر برأيه في مسائل قابلة للخلاف والاختلاف والنقاش والحوار، ولا تؤثر على الأمن الوطني، أو تتعلق بثوابت عقدية؛ لأن مثل هذه المحاسبة على الرأي هي التي يتمناها الأعادي، ليبنوا عليها تقاريرهم الإعلامية والحقوقية التي تشوه وطننا العظيم، وتحرّض عليه الحمقى من أهله، قبل الحالمين بضعفه وسقوطه من أعدائه، فتصوره سجنا كبيرا لا رأي فيه، ولا حياة، ولا كرامة، وهي صورة مغايرة للواقع الذي نعرفه معرفة أكيدة، إلا أن بعض الاجتهادات الخاطئة تمنح المتربصين بنا فرصا ذهبية للنيل منا، وليس من الحكمة أن نهبهم مدخلا إلى الكلام بالسوء عن وطننا، فيما نحن -بكل يسر- نستطيع إغلاق هذا المدخل، وإخراس ألسنة متصيدي أخطائنا الصغيرة في ذاتها، والكبيرة في سلبياتها وتداعياتها.