كتب معالي وزير التعليم الدكتور أحمد العيسى مقالا في صحيفة الحياة عن المنطق خلف قرار الوزارة الأخير بإقرار حصص نشاط مدرسي على مدار أربعة أيام في الأسبوع. ارتكز المقال على فوائد النشاط من الجوانب المعرفية والنفسية والعلاقة بين الطالب والمدرسة وبين الطالب والمعلم/‏ـة، وعلى خلق روح تعاونية جماعية تحيل المدرسة إلى جماعة نشطة ومتعاونة. من خلال ردود الفعل المختلفة على المقال لاحظت شبه اتفاق على أهمية النشاط المدرسي. الاختلاف حدث في نقطتين أساسيتين: أولا: مدى أولوية النشاط مقارنة بأهداف تربوية أخرى، والثاني عن توفر الشروط الضرورية لتنفيذ القرار الوزاري في الميدان التربوي. هذا المقال متوجه للنقطة الأولى في محاولة للرفع بموضوع النشاط المدرسي إلى مرحلة الضرورة التربوية، وأنه ليس مجرد نشاط ثانوي. المقال يسعى لكشف علاقة قوية جدا بين غياب النشاط المدرسي وسيادة نمط التلقين في التعليم. سأعتمد على دراسات سيكولوجية ومعرفية حديثة.

 في البداية لا بد من الحديث عن ظاهرة سيكولوجية تسمى ظاهرة نفاذ الذات Ego depletion تنتج عن ممارسة نشاطات التحكم في الذات self-control. الذي يحصل أن الإنسان حين يقوم بممارسات للتحكم في الذات مثل الجلوس في محاضرة مملة ومقاومة الرغبة في الحركة والمغادرة، فإنه يستهلك طاقة خاصة في الجسد مخصصة لهذا الغرض. تصرفات الإنسان التي يجريها وهو في هذه الحالة تفتقد للطاقة الضرورية للتحكم في الذات. أجرى العالم السيكولوجي Baumeister وفريق عمله عددا كبيرا من التجارب التي أثبتت وجود هذه الظاهرة. إحدى هذه التجارب كانت على مجموعتين متجانستين من طلاب الجامعة أدخلوا في غرفة كبيرة تعج برائحة الشوكولاته الطازجة. المجموعة الأولى طُلب منهم أخذ راحتهم في الأكل من الشوكولاته الطازجة بينما طلب من أفراد المجموعة الثانية أكل فجل بدلا عن الشوكولاته تم توفيره في الغرفة. بعد ذلك أعطي للجميع مسألة رياضية لحلها (بدون علم الجميع كانت هذه المسألة غير قابلة للحل)، وبإمكانهم تسليم أوراقهم متى ما رغبوا. بعد ذلك تم قياس سلوك المجموعتين ليظهر أن أفراد المجموعة التي أكلت من الفجل كانوا أسرع في التوقف عن محاولة حل المسألة، وأبدوا علامات التذمر والملل أكثر من غيرهم. كان تفسير هذا السلوك أن المجموعة الثانية قد استهلكت طاقة التحكم في الذات في محاولتهم مقاومة الرغبة في الأكل من الشوكولاته. تمت إعادة التجربة في ظروف أخرى للتأكد أن الفارق لم يحدث بسبب ارتفاع نسبة السكر عند أفراد المجموعة الأولى مقارنة بالثانية.

 بقي الآن أن نربط ظاهرة نفاذ الذات بظاهرة التلقين. تجارب متعددة أثبتت أن الإنسان في حالة نفاذ الذات يكون أكثر قبولا واستجابة للأفكار التي تعرض عليه مقارنة بالإنسان الذي يمتلك طاقة التحكم في الذات. في تجربة شهيرة قسم العالم Wheeler وفريق عمله البحثي مجموعة من الطلاب والطالبات إلى مجموعتين متجانستين. طلب من المجموعتين القيام بعمل يتطلب التحكم في الذات (شطب كل حرف e في كل كلمة). المجموعة الثانية تم تكليفها بالقيام بعمل إضافي وهو شطب ذات الحرف إلا إذا كان هناك حرف لين يتلو الحرف المطلوب في ذات الكلمة. بعد ذلك قرأ الجميع حججا عن نية الجامعة فرض اختبار على الطلاب في الموسم القادم. البعض قرأ حججا قوية مثل ضرورة هذا الاختبار لرفع مستوى طلاب البكالوريوس، والبعض الآخر قرأ حججا ضعيفة مثل أن هذا الاختبار سيساعد الطلاب على مقارنة نتائجهم بنتائج طلاب آخرين في جامعات أخرى. الذي ظهر أن أفراد المجموعة التي قامت بعمل إضافي وبالتالي استهلكت مصدر التحكم في الذات كانت أكثر قبولا للحجج الأضعف وأظهرت مقاومة أقل. تجارب أخرى في مجال القانون والتحقيق أشارت إلى أن الأفراد في حالة نفاذ الذات ego-depleted أكثر عرضة للخضوع لاستراتيجيات المحققين وتأثيرهم.

 الشاهد هنا أن الإنسان في حالة نفاذ الذات يفقد الطاقة اللازمة للتفكير النقدي وتقييم الأفكار، وهذا هو الظرف المناسب للتلقين. المدرسة فيها كثير من الشروط التي تتطلب من الطالب والطالبة التحكم في ذواتهم وكبت بعض الرغبات غير المناسبة، وإذا لم يكن لدى المدرسة خطة لتعويض وتجديد هذه الطاقة فإن الطلاب والطالبات سيدخلون الحصص مستنفدين للطاقة اللازمة للتفكير النقدي وتقييم الأفكار، وبالتالي عرضة قوية للتلقين حتى لو اجتهدت المعلمة أو اجتهد المعلم في تفادي ذلك. دراسات كثيرة أشارت إلى أن النشاط الحر واللعب من السلوكيات التي تعيد تنشيط طاقة التحكم بالذات، وبالتالي التفكير النقدي والحيوية الذهنية. هذا يعني أن النشاط المدرسي ضروري لتفادي التعليم القائم على التلقين. التعليم الحديث المتطلب لذهن متوقد وطاقة إيجابية وروح تعاونية يحتاج لطالب وطالبة في أفضل أحوالهم الصحية. النشاط، متى ما أقيم باحترافية، كفيل بتوفير الطاقة الضرورية للحفاظ على حيوية الطالب الذهنية وبعده عن حالات الاستسلام والسلبية. هذا الاستسلام والسلبية سيكونان متوقعين جدا في تعليم روتيني متطلب لساعات من كبت الرغبات الطبيعية في الحركة والمشاركة. بدون آلية لتجديد نشاط طلابنا وطالباتنا فإنهم سيفتقدون جزءا كبيرا من طاقتهم الضرورية للإبداع والابتكار، وبالتالي فإن كل المناهج وطرق التدريس الحديثة ستتحول إلى تلقين جديد ما دام الطالبة والطالب في حالة نفاذ الذات ويفتقدون الطاقة الضرورية للفعالية الذهنية.