منذ أن دلفنا إلى طائرة الإمارات المتجهة من دبي إلى ماليزيا وهذا الشاب السعودي الذي يجلس عن يميني البعيد، يتأبط يد امرأة تُجَاورَهُ في المقعد، أيقنتُ أنهما في قفص شهر العسل. فماليزيا - كما يقولون - هي حلم المخطوبين وبوابة المتزوجين الجدد.. ماليزيا هي الحد الفاصل بين ما قبل الزواج وما بعده. وفي ماليزيا، يتعلم الزوج وزوجته ثلاثة فنون في اختيارهما ماليزيا مكاناً لتدشين حياتهما الجديدة: فن ترويض الأنا وأدب تقديم التنازل للآخر، وفن تحمل المسؤولية المصاحب لبناء الذات وفن الشراكة وثقافة روح الفريق. كيف استطاعت ماليزيا إذاً أن تكون منافسا إقليميا ودوليا لأباطرة السياحة والاستثمار والصناعة في العالم، وقد كانت إلى عهد قريب تصارع الانقسامات العرقية والثقافية المختلفة بين أبناء شعبها والفقر المتجذر في مجتمعاتها الزراعية التقليدية؟ كيف استطاعت ماليزيا أن تتجاوز وحل الفقر والعوز ومستنقع الثقافة الزراعية التقليدية وأن تتحول إلى واحدة من أسرع المجتمعات الصناعية تطوراً وأكثرها إنتاجية وأقلها بطالة؟ وكيف تمكنت ماليزيا وهذا الأهم، من أن تنجو من الحيتان الآسيوية الأكثر سكانا في العالم والأكثر تقدما صناعيا؟ كيف تمردت ماليزيا على ذاتها وتجاوزت مستنقع الأقزام إلى نادي العمالقة؟ كل هذا في بلد موارده الطبيعية محدودة؟

السبب هو أن مهندس ماليزيا الحديثة مهاتير محمد، حين قرر أن ينتشل المجتمع الماليزي من حال إلى حال، لم يعالج كل مشكلة على حدة، ولم يفصل بين علاج الفقر وصناعة النجاح. فحين تصدى للبطالة، لم يفصل بينها و بين مشكلة العرقيات في بلاده والفجوة التنموية بين تلك العرقيات. وحين أراد معالجة مشكلة التعليم، لم يكن ذلك بمعزل عن معالجة مشكلة الاقتصاد. وحين أراد معالجة مشكلة الاقتصاد الماليزي، لم يكن ذلك بمعزل عن تحسين العلاقات مع الجوار الماليزي، ولم يكن ذلك بمعزل عن ترسية وترسيخ الاستقرار المبني على الديموقراطية التي تضمن انخراط كل الماليزيين في صناعة حاضر ماليزيا ومستقبلها. حين أدار ظهره لبرامج البنك الدولي إبان الأزمة الشهيرة التي ضربت نمور آسيا، كان لديه البديل الوطني و الرؤية الإستراتيجية لماليزيا. وحين يتحدث في مؤتمر آسيوي يضم نمور آسيا، يتحدث ولا ينسى أن بلده عضو في المجموعة الإسلامية. وحين يتحدث كزعيم من أصول ملاوية، لا ينسى أنه زعيم لشعبه بالكامل الذين من بينهم، ذوو الأصول الصينية وذوو الأصول الهندية يتساوون في المواطنة حقوقا وواجبات.

الأسبوع الماضي استوقفني خطاب دولة رئيس وزراء ماليزيا محمد نجيب عبدالرزاق حين افتتح الحفل السنوي لبرنامج الخليج العربي للتنمية لتكريم أفضل مشروعات التنمية في العالم والذي احتضنته ماليزيا هذا العام برعاية دولة رئيس الوزراء على شرف سمو رئيس أجفند الأمير طلال بن عبدالعزيز بإنابة الأمير تركي بن طلال. فقد كانت "المهاتيرية" حاضرة في ثنايا ذلك الخطاب، حين استهل دولة رئيس الوزراء خطابه بمقولة الاقتصادي آدم سميث "لا يمكن لمجتمع أن ينعم بالازدهار، وغالبية أفراده من الفقراء والبائسين". الحقيقة أن أجفند لا يختلف عن المنهج الماليزي في التعامل مع قضايا التنمية كحزمة مترابطة متفاعلة، فهو لا يتعامل مع حقوق وتربية، بمعزل عن قضية تمكين المرأة، ولا يتعامل مع مكافحة الفقر، بمعزل عن توفير التعليم لمن لا يصلهم التعليم أو المحرومين منه لأسباب مادية أو اجتماعية، ولا يتعامل مع المنظمات الأممية والدولية، دون أن يعزز الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني بل وحتى الحكومي إذا لزم الأمر. ولذلك جاءت أغلب مشروعات أجفند مكملة لبعضها بعضا. سواء من حيث التوزيع الجغرافي، أو من حيث المراحل العمرية للإنسان، أو من حيث احتياجات الإنسان.

ومثلما أن لماليزيا الحديثة مهندساً، فإن لأجفند مهندساً تنموياً، وضع الأمير طلال بن عبدالعزيز رؤيته التنموية مبكراً ورسم مسارات أجفند وحقق أهدافه ليصل عدد مشروعاته 2224 مشروعا في 131 دولة تقف في مقدمتها ثمانية فروع للجامعة العربية المفتوحة في ثمان دول عربية، وخمسة بنوك للفقراء في خمس دول عربية وأفريقيا فضلاً عن سلسلة رياض الأطفال ومشروع صحة الأسرة العربية ومركز المرأة العربية والمجلس العربي للطفولة تمتد في كل أو أغلب الدول العربية.

إنهما المدرستان التنمويتان "المهاتيرية" و"الطلالية" تحتفلان في عرس كوالالمبور، التي يشهد اسمها على التغير العميق الذي حصل لها. فاسمها يعني "بيوت الطين" وواقعها هو أنها مدينة "أعلى ناطحات سحاب في العالم".