هناك مثل شعبي كنا نسمعه صغاراً يقول «لا تشرفني حتى يموت الذي يعرفني» ودلالته أن الذي يتذاكى على جيل لا يعرف تاريخه سيجد أن هناك من مجايليه من يعرفون ذلك ويكشفونه، والأمر في عصرنا الحاضر لم يعد بهذه البساطة، فالأحداث والوقائع مقيدة بالكتابة، والناس يبحثون خفاه كما يقال في بيشة، وذاكرتهم التي يظنها المتذاكون بأنها كذاكرة السناب لا يعلمون أنها محفوظة وكم في الزوايا من الخبايا.

كنا درسنا في دار التوحيد في الطائف وبقسم اللغة العربية بكلية الشريعة بمكة على أيدي أساتذة فضلاء وعلماء أجلاء، كتب ورسائل ابن تيمية وابن قدامة ومحمد بن عبدالوهاب وغيرهم في العقيدة والفقه وأصوله والتفسير وأصوله والحديث ومصطلحه، وكان أساتذتنا من تلامذة أئمة الدعوة أو من خريجي معاهد الشيخ ابن إبراهيم العلمية أو الرعيل الأول من خريجي دار التوحيد وكلية الشريعة بمكة والرياض، ودرسنا أيضاً بجانبهم على يد أساتذة وعلماء من قيادات الإخوان في سورية ومصر بعد أن احتضنتهم السعودية وفتحت لهم قلبها وعقول أبنائها، وبعضهم كان محكوماً بالإعدام، وعرفنا وقتها بمداركنا البسيطة الفرق بين الدرس الديني على يد أساتذتنا السعوديين والتدريس الحركي التجييشي على يد أساتذتنا من الشام ومصر، وشهدنا كيف كان أساتذتنا الحركيون يستغلون حماسنا المتقد وعاطفتنا الجياشة آنذاك ليجعلونا مهووسين بأفكارهم ومندفعين إلى السماع منهم بدل الكلام التقليدي الذي اعتدنا على سماعه.

وكنا نشهد مع ذلك كيف كان أساتذتنا يخوضون مواجهات فكرية وإدارية معهم، وبدأنا وقتها نشعر بصدق وإخلاص أساتذتنا في مواجهتهم، وهي مواجهات يخسرها في الغالب أساتذتنا الوطنيون، لأن الحركيين أكثر دهاء وتنظيماً وتكاتفاً وخبرة بالعمل الحركي، ولأن ثقافة المسؤولين كثقافة مجتمعنا تقف مع الضيف على حساب أهل البيت حشمة لهم وشيمة وكرماً، وسأكتفي بهذا المدخل لأنتقل إلى مرحلة تاريخية ثانية مع أن كل هذه الأفكار العامة لها تفصيل بالأحداث والتواريخ والأسماء، وبعض المشاركين فيها أو شهودها ما زالوا أحياء، أطال الله في أعمارهم، وليس هذا مقام التطرق إليها.

بدأ العمل الحركي الذي عاصرناه يؤتي ثماره لديهم من خلال جيل تربى على هذه الأفكار، عندما تلقف العمل الحركي تلامذة لهم وكانت هناك نشاطات بدأت بالهيمنة على مراكز التأثير كالمدارس والجامعات، ولعل الكثير يذكرون يوم التغيير الجذري عندما تغير 13 وكيلاً ووكيلاً مساعداً دفعة واحدة في وزارة المعارف وتمت السيطرة على النشاط المدرسي في كل إدارات التعليم، وتم تغيير الأسماء الكبيرة التي أسست وطورت النشاط كالكشافة والمراكز الصيفية والمسرح المدرسي والرياضة، وتم تغيير كل القائمين على النشاط المدرسي ورعاية الشباب في الإدارات التعليمية، وظهر في ذلك الوقت تيار الصحوة العارم الذي اكتسح كل شيء مستفيداً من مناخات حرب الخليج وغزو الكويت والجهاد في أفغانستان والشيشان وغيرهما.

وإلى جانب أشرطة الكاسيت المجانية التي كانت توزع في كل مكان والكتيبات المجانية أو بسعر رمزي (ريال واحد) ظهرت الساحات السياسية والمنتديات الأخرى، وانتشرت بكثرة وقتها الأسماء المستعارة الحركية أو المعرفات، واندفع الناس إليها اندفاعاً كبيراً إلى أن أقفل التسجيل وبدأت تباع تلك المعرفات بعشرة آلاف إلى عشرين ألفا للمعرف الواحد، وافتعلت الجماعات الحركية معارك كثيرة مع أفكار صوروها غولاً بأنياب كبيرة جاءت لهدم الإسلام والهجوم على المسلمين، لتكتسب الجماعات الحركية مشروعيتها في الهجوم وكسب الأتباع مثل لعبة البطل الذي يأكل أعداءه ليكبر، فافتعلوا الحرب مع ما صوروه بالعلمانية والليبرالية والحداثة وقيادة السيارة وغيرها في بلاد الحرمين، وأن هناك أعداء للإسلام في منتديات دار الندوة وطوى، ووصل الأمر إلى أن الصديق عبدالقادر طاش -رحمه الله- الذي كان من المشاركين الفاعلين في المنتديات بمعرف مستعار اضطر إلى أن يلقي محاضرة في نادي الطائف الأدبي نادى فيها بترشيد الصحوة أي إعادتها إلى رشدها، وهو الرجل المعروف بالعمل الإسلامي الصادق والواضح في أميركا والسعودية، وعندما بدأ الإرهاب القاعدي في السعودية يكشر عن أنيابه وبدأت الحملات الناجحة للأمن السعودي في التصدي له انكشفت أسماء الشخصيات القوية في الساحات، وكثير منهم كانوا ضمن قيادات القاعدة التي انتقلت في بلادنا من مرحلة المساندة إلى مرحلة المواجهة مثل المقرن والصيعري وابن شويل وغيرهم، وظهر معها الشخصيات الكبيرة التي كانت تنظر لهم وتقف خلفهم ومنهم الثلاثة الذين كانوا يصرحون بتكفير الدولة والجنود، ولهم محاضراتهم ولقاءاتهم وكتبهم ومواقعهم الإلكترونية التي يذكرون فيها آراءهم صراحة، ولا يستطيع أحد أن يهاجمهم وإلا فتحوا عليه أبواب النار من السباب والإيذاء والهجوم.

بعد انتهاء حرب الخليج أحست الجماعات الحركية بأنها أصبحت قوية ومنظمة ولديها أتباعها، فبدأت حرب البيانات المختلفة التي يضعون أسماءهم عليها ويستدرجون آخرين من المتعاطفين، وهناك أشخاص وضعت أسماؤهم دون علمهم، وفي هذه المرحلة بالذات تدخلت الدولة وقبضت على رؤوسهم واستدعت الآخرين وبعضهم أساتذة جامعات وأئمة مساجد وطلاب علم، وعلموا وقتها أن إغماض العين عن كل تصرفاتهم قد ولى زمنه، وأن يد الحكومة طائلة مهما كان بالها وسيعاً، فأطلقت من تراجع وعاد إلى عمله، وهناك فئة تظاهرت بالتراجع وتعهدت بعدم العودة إلى إثارة الفتن وهم يعلمون أن كل ذلك مسجل كتابة وصورة وفيديو، ولكنهم كانوا يعولون كثيراً على حجمهم عند أتباعهم من جهة وحلم الحكومة وتغاضيها الذين فسروهما بالضعف.

بعد الخروج بدأت مرحلة الكمون والعودة إلى العمل السري من خلال مراجعة المرحلة السابقة ومعرفة أخطائهم والاستفادة من تجربة الإخوان والجماعات الإسلامية في مصر في العمل تحت الأرض، وهو اصطلاح للعمل السري، وتزامن ذلك مع بداية ظهور الطموح السياسي الإقليمي لتنظيم الحمدين، حيث وفرت لهم قطر الدعم المادي والغطاء السياسي بحكم أنها دولة خليجية والملاذ الآمن، وتطوير أدوات العمل السياسي والقناع الخيري والدعوي تحت غطاء الندوات والرحلات في تركيا وإندونيسيا وإفريقيا والدورات التدريبية في هذه الدول وفي مركز التدريب بقناة الجزيرة، ولا يشك أحد حين يخرج أتباعهم من السعودية في هذه اللقاءات أو لتجنيد آخرين لأنهم يعلمون أنهم مراقبون في السعودية وأي اجتماعات ستكون مرصودة.

الفخ الكبير الذي وقعوا فيه كان باستلام محمد مرسي السلطة في مصر، وسقوط ليبيا وسورية والعراق في الفوضى، وضعف بعض الدول أو سكونها أو انشغالها بشأنها الداخلي، وظنوا أن الدنيا قد أقبلت عليهم فتخلوا عن حذرهم الشديد وذكائهم ودهائهم في التخفي وكشفوا أنفسهم بتغريدات وتصريحات ولقاءات وزيارات، وعندما انقلبت الأمور لجؤوا مرة أخرى إلى السكون، ثم خانهم ذكاؤهم للمرة الثانية بعد انقلاب تركيا الفاشل وكشفوا شيئاً من أوراقهم، لكن يظل يحسب لهم الذكاء والدهاء في التخفي والمواربة.

سياسة الحزم التي انتهجها الملك سلمان في العامين الأخيرين أسفرت عن مواقف صلبة تعيد الأمور إلى أصولها وأحجامها الطبيعية، وكانت الحرب على الإرهاب ودعمه وتمويله من خلال قطر فرصة لتسمية الأشياء بأسمائها، ونتيجة ذلك وفي خلال 3 أشهر ظهر للعالم أن هناك نموراً من ورق في حديقة حيوان افتراضية بنيت على أساس تنظيم ثورجي وليس بناء دولة حقيقية تعيش في الألفية الثالثة.

هذه القفزات التاريخية السريعة تنهض على مجموعة كبيرة من الأحداث والوقائع نعرفها زمانا ومكانا وأشخاصاً ليس هذا موضعها ولكن لها أهميتها ودلالتها وستكتب بالتأكيد، وتكتسب دلالتها في أنها تبين أن ما تم كشفه هذه الأيام هو مجرد سلسلة من عمل حركي منظم لأشخاص حركيين ظاهره الإصلاح وباطنه استهداف استقرار الدولة وأمنها وقيادتها ومواطنيها، لهدف سياسي هو الوصول إلى السلطة، ونحن نرى في التجارب التي أمامنا أنهم أضاعوا دولهم وأمنهم ولم يحققوا ما كانوا يطمعون فيه، ولذلك لا بد أن يضيء النور جوانب العتمة ولا يبقى الباب موارباً متاحاً للمتلصصين على أمن الدولة واستقرارها وطمأنينة شعبها.

خلايا عزمي بشارة وتنظيم الحمدين ودعاة الفتنة عبر حساباتهم التي بنوها سرا على مدار سنوات عديدة وجمعوا فيها ملايين المتابعين، شراء أو استقطابا، بدأت هذه الأيام هجوما شرسا على السعودية وقادتها ومواطنيها ومسؤوليها، وتصويرها دولة بوليسية ضد الدعاة وأنها تتجه للعلمانية وتحارب العلماء ورجال الدين، وهم يظنون أن الناس تجهل كم مدت الدولة يدها لرموز الإسلام السياسي في السعودية وجاملتهم، وإذا استدعتهم كان استدعاء ناعما كريما مضيافا لكن ذلك لم يجد نفعا كما لم ينفع التغاضي عن حراكهم في منتديات النهضة وغيرها، ولم تفعل بهم ما فعلت تركيا بأكثر من 100 ألف معتقل ومطرود من عمله، بل تغنوا بذلك وطاروا فرحا مع أنهم رغم تاريخهم وملفاتهم يمارسون حريتهم في السفر والحياة والالتقاء بالناس والتجارة وأرصدتهم في البنوك من ذوات الخانات الثماني فما فوق، كما أن الدولة تحملت كثيرا من الاتهامات الخارجية شرقا وغربا، بل ومن بعض الدول الإسلامية والعربية بأنها تحابي هؤلاء وتغض الطرف عنهم على الرغم من التقارير التي ترسلها تلك الدول عن نشاطات هؤلاء، ولكن بعد أن طفح الكيل ووصل الجميع إلى قناعة أن من يكيدون للوطن ويسعون إلى زعزعة أمنه واستقراره ليسوا من أبنائه، وإنما هو عمل غير صالح كان لا بد للدولة أن تكون حازمة تجاهه، إذ لم تصل بعد إلى مرحلة الأشد حزما، وما دون الحلق إلا اليدان.