انثال للذاكرة الشائخة مباشرة، عقب سماعي خبر فوز قطر بتنظيم كأس العالم؛ فوزنا عليها في إحدى دورات الخليج التي غبرت- إبان يفاعتي ومتابعتي الكرة- بسبعة أهداف، وتألق فيها مهاجمنا الأخطر إذ ذاك ماجد عبدالله وسجل خمسة أهداف.

كان مفاجأة لي ولغيري هذا الفوز بتنظيم المونديال العالمي، وشمتّ طويلاً بباراك أوباما، وأنا أطالع صورته والحسرة ترتسم على قسمات وجهه، وهو يقول: "قرار الفيفا بإسناد تنظيم المونديال خاطئ".

ربما كانت العبارة "الدول لا تصنع جغرافيتها لكنها تصنع تاريخها" تنطبق تماماً على ما نراه يحصل في الجارة العزيزة قطر، فالفوز بتنظيم المونديال بطريقة فاجأت العالم –العربي منه بالخصوص- الذي لم يعتد أن يفوز في مناسبات أممية كهذه؛ أعاد تسليط الضوء على هذه الدولة الصغيرة في ضفتنا الشرقية، التي كانت قبل عقد ونصف من السنوات؛ دولة لا يكاد يعرفها الإنسان العربي ولا يسمع بها، بلْهَ عن باقي دول العالم، وباتت اليوم على كل لسان على وجه البسيطة..

ولو كان الإنجاز في الجانب الرياضي لربما خفت إعجابنا بها؛ إلا أن الإنجازات تتوالى في كل الاتجاهات، فالإعلامي العربي يدين لقناة (الجزيرة) بهذه الحرية النسبية التي يتمتع بها، فعبر طروحاتها الجريئة، وعدم رضوخها؛ حقق الإعلام العربي هامشاً جيداً من الحرية، واستطعنا –كإعلاميين- فتح ملفات لم نك نجرؤ على الاقتراب منها، وها هي القناة تغرد بعيدة في ساحة الإعلام الفضائي كقناة أولى مفضلة للمواطن العربي.

وتبوأت قطر في العام الحالي المركز الأول بين دول الشرق الأوسط على مقياس التنافسية الدولية بعد أن احتلت المركز السابع عشر بين 139 دولة على مستوى العالم، ومقياس التنافسية يقوم على 12 محوراً رئيسياً هي على الترتيب: محور المؤسساتية، البنى التحتية، البيئة الاقتصادية، الصحة والتعليم الابتدائي، التعليم العالي والتدريب، فعالية أسواق السلع، فعالية سوق العمل، مدى تطور السوق المالية، مدى التطور التكنولوجي، حجم سوق العمل، مدى تقدم نشاط الأعمال، والابتكارات. ويتفرع عن كل محور من هذه المحاور الرئيسية محاور أخرى فرعية بما يساعد في الحكم على مدى تقدم الحياة في بلد ما، وما يوفره من قدرة على المنافسة مع أنشطة مماثلة تقام في البلدان الأخرى، وقطر كانت الأولى على مستوى الشرق الأوسط لهذا العام 2010-2011م.

في ما أعلنت مؤسسة (راند) في تقرير أصدرته مؤخراً أن دولة قطر نجحت في غضون سنوات قليلة بتطوير نظامها التعليمي الشامل، بحيث تمّ إضفاء العديد من الخصائص الجديدة إلى النظام، مثل استقلالية المدارس والتنوع في المنهاج التعليمي وغيرها من السمات التي جعلتها في أوائل الدول العربية من ناحية جودة التعليم.

فما الذي فعلته قطر لتقفز هذه القفزات الخرافية في أقل من عقد من السنوات؟ ولتتبوأ الصدارة عربياً في مجالات عدة، بعد أن كانت دولة هامشية صغيرة لا يؤبه لها أبداً.

أدعو الباحثين لدينا لرصد التجربة القطرية، والإفادة مما يمكن أن يخطو بنا في مدارج التنمية والتنافسية الأممية، ومن الحكمة بمكان الإفادة من تجارب الآخرين، خصوصاً إنْ كانت البيئة وخصائص المجتمع والجغرافيا قريبة ومتشابهة.

بتصوري أن عوامل عدة تضافرت كلها، وكانت السبب في هذه الإنجازات التي تحققت للجارة العزيزة، وأبدع د.هاشم عبده هاشم في تلخيصها، حيث ذكر في مقالته (مع التغيير وليس مع الخوف منه) شيئاً من هذه الأسباب: "الفرصة باتت مواتية بالنسبة للدول الصغيرة والنائية، للوصول إلى العالم الأول.. إذا توفرت العزيمة.. وحسن التخطيط.. وسلامة توجيه الموارد.. والاهتمام بالإنسان.. ورفع مستوى الحياة في الأوطان.. وتقديم الصورة الذهنية الصحيحة عن الشعوب التي تمتلك الطاقات.. والمواهب.. والقدرة على التجديد والإبداع.. والجدية في النظر إلى المستقبل.. واستغلال الوقت.. وكل ذلك في إطار محاسبة النفس.. ومراقبة الأعمال والتصرفات السلبية.. وتوظيف جميع الطاقات في خدمة المكان والإنسان.. وإيقاف الفساد بكل صوره وألوانه وإشاعة العدالة والمساواة في الأرض" (الرياض 30 ذو الحجة 1431هـ).

ليتأمل المواطن العربي تلكم الأسباب التي ذكرها عميد الصحافة السعودية، ويضع حال مجتمعه العربي على تلكم المعايير، وسيخرج مباشرة بسبب تخلف مجتمعه وعدم تحقيق الإنجازات التي تتفنن بتحقيقها قطر.

حماسة السطور أعلاه، لا تلغي أبداً عدم موافقتي للجارة العزيزة في تلك التنازلات الكبيرة التي قدمتها كعربونات لكسب رضا العالم، وفي مقدمتها التطبيع الرياضي والإعلامي مع الكيان الصهيوني وخذلانهم لإخوتهم الفلسطينيين، وأعرف أن هذا التنازل - ربما - دفع بهم كثيراً لتحقيق الفوز في الفيفا، إضافة إلى بعض التنازلات الشرعية، والأخذ ببعض الآراء الفقهية المرجوحة أو الضعيفة للظهور أمام العالم بأنها دولة متسامحة دينياً.

أطرف ما في موضوع الفوز القطري، هو تصريح الشيخ القرضاوي أنه كان يدعو لقطر في صلاته بالفوز بتنظيم المونديال، واعتباره لاحقاً أن الفوز هو نصر للإسلام وللمسلمين. يا لهذه الكرة!.