لم أستطع أن أجد تفسيراً للغيظ الذي شعر به بعض الأفراد الذين يحملون الجنسية السعودية، وهم يرون الشعب السعودي يحتفي بوطنه في ذكرى تأسيسه، سوى ذلك الخلل الفكري المزروع قسراً في أذهانهم، والمتمثل في فكرة الأممية المفضية إلى إذابة الهويات الوطنية، وإلى تآكل الشعور بالانتماء إلى وطن، ليكون البديل وهماً هلامياً عابراً للحدود وماحياً لها، إذ لا حدود له، ولا ملامح، ولا أرض، ولا هوية، ولا هدف إلا إسقاط الدول القائمة لتقوم على أنقاضها الدولة الحلم التي لا أرض لها، ولا شعب سوى شعب الحزب!

على الرغم من أن الانتماء إلى الأوطان جبلّة وفطرة، إلا أن «الأميين» (نسبة إلى الأمّة؛ لأن تاء التأنيث تُحذف عند النسب) يصرون على مخالفة الفطرة بإصرارهم على الاستمرار في الكفر بالأوطان كفراً مزدوجاً؛ فهم يكفرون بها في صورتها التي تسبق عصر الدولة؛ أي يكفرون بها بوصفها أرضاً/ تراباً، وبوصفها مدارج نشأة، وموئل روح، ويكفرون بها في صورتها الحديثة بوصفها دولةً ذات حدود معلومة، ومؤسسات متكاملة، وقوانين مُلزِمة بحكم عقد المواطَنة. وعليه، فإن الكفر بالأوطان، يقود إلى الكفر بما يترتب على الإيمان بها، وأهم تلك المترتّبات هو الإيمان بالمواطَنة بوصفها عضويةً ينالها كل من يحمل جنسية بلد ما، وهي تمنح صاحبَها امتيازات اجتماعية واقتصادية، وتوجب عليه التزامات كثيرة تُعرف بـ«حقوق المواطنة وواجباتها»، وجماعها التعاون والتكامل والعمل الجماعي المشترك بين حاملي الجنسية من أجل نهضة الوطن/الدولة، ورفاهية مواطنيه، ورفع رايته، وزيادة أسباب قوته، وهذه غايات مشتركة يكون الخلاف بين مواطني أي بلد حول طرائق تحقيقها، لا حولها، إلا أن الخلاف بين: «الأميين»، وأضدادهم، خلاف حول الغايات في ذاتها؛ لأن الازدهار والبناء وتعزيز الشعور بالانتماء، والإيمان بالهوية الوطنية من أسباب قوة الدول وديمومتها، وذلك ما لا يريده «الأميون» الحالمون بدولتهم الهلامية، وهو ما يفسر وقوفهم الدائم في وجه القوانين العادلة، ورفضهم معززات الوحدة الوطنية رفضاً علنياً يصل إلى العمل على تعطيل أي تشريعات تنبذ الطائفية والعنصرية.

يتجاهل «الأميون» عمداً أن في القرآن الكريم أدلة واضحة على فطرية الإيمان بالأوطان، وليس أدل على ذلك من أن عقوبة النفي والإخراج من الأوطان من أشد العقوبات، وأنها لا تكون إلا في حال ارتكاب جرائم كبيرة. قال تعالى (ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا?،[سورة: النّساء، الآية: 66]، فالحياة تعادلُ الخروج من الدّيار، مما يعني أن الخروج من الديار يعادلُ الموت، وفي ذلك دلالةٌ على الأثر النفسي الرهيب الذي ينجم عن الغربة، والبعد عن الوطن، ولذا كان التّغريبُ أسلوباً عقابيّا، يقول الله تعالى: ?إنما جزاء الذين يحاربون اللَّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم? [سورة: المائدة، الآية: 33].

لست أدري أي فكر أعوج هذا الذي يناقض الفطرة، ويتلاعب بالعقول، ويعمل على إذابة الهويات الوطنية القارّة، وذلك كله سبيل تقويض الدول، والوصول إلى عروشها؟

إنه فكر لا يستحق الاحترام؛ لأنه مصلحي غائي غير أخلاقي يقوم على المغالطات، وليّ أعناق المفاهيم، وتغيير تآويل النصوص، وامتطاء المقدس، واستغلال فطرة التدين، ليخترق هذا الفكرُ العقولَ عابراً إليها إيمانَ أهلها بالله، ومستغلاً حرص المؤمنين به على طاعته، وهذه بشاعة لا تعادلها بشاعة. ومهما يكن من أمر، فلا خلاف بين غير «الأميين» الداعين إلى انتماءٍ بلا حدود، حول أن من وسائل تقوية الإيمان بالوطن، الاحتفاء به في يومٍ معلوم، يذكّر الناسين بأن لهم وطناً، ويعيد الغافلين إلى الجادة، ويحد من انتشار أفكار «الأميين»، ويزيد في رُشد الراشدين، لننعم بالسلم الاجتماعي، ونسلم من تبعات الصف المشقوق إلى صفين: شعار أحدهما «وطن»، وشعار الآخر «لا للوطن».

ولا اختلاف بين غير هؤلاء، على أن «الدولة الوطنية»، ذات الحدود المعلومة، والمؤسسات القائمة، والأنظمة الموحدة، والقوانين العادلة، مكسب عظيم يصعب - وقد يستحيل - تعويضه في حال فقده، ولنا أسوة غير حسنةٍ، في الدول التي لم تكن هويتها الوطنية واضحة، ولم تكن جبهاتها الداخلية متماسكة بالقدر الذي يحول بينها والتمزق، ويحميها من اختراق الجماعات المسلحة المولودة من رحم الفكر الذي تقوم عليه أدبيات «الأميين».

ولا خلاف ولا اختلاف إلا مع «الأميين»، حول أن الدفاع عن مكتسب «الدولة الوطنية» التي يعترف بها العالم كله، من أوجب الواجبات، وأجلّ المهمات، وهو دفاعٌ لا يتوقّف عند القول والحِجاج وتدبيج المقالات التي يدفع كاتبوها ضريبة كتابتها شتماً وتشويهاً وتصنيفاً وتجييشا ضدهم، بل يتجاوز ذلك إلى الفعل الإيجابي المبني على إدراكٍ ووعي، والمنطلق من نباهةٍ تؤهّل للوقوف ضد ممارسات «الأميين»، وتعين على فهم أساليبهم.

 ولا خلاف بين من خبروا أفعال «الأميين»، حول أنها ممارسات خفية على الغافلين، وجلية أمام من ضرّستهم أنيابها، أو لدغتهم أفاعيها، فضلا عن أنها ممارسات كثيرة ومتفرعة وأخطبوطية إلى الحد الذي يمكن أن نتعثر بأذرعتها في لجنة تنمية اجتماعية، أو منشط طلابي، أو مهرجان صيفي، أو دورة من دورات تنمية القدرات «إياها»، أو محاضرة عن أخطار الماسونية، أو ندوة عن الأمن الفكري، أو نشاط جماعة تحمل اسماً أعجمياً براقاً وتدعي دعم المواهب، أو مسابقة في فن الإلقاء، أو حفل زفاف في قرية نائية إلا عن سهولة اختراق عقول أهلها الطيبين، أو حتى مباراة كرة قدم بين فريقي حواري.

أظن – والله أعلم – أن الرسالة قد وصلت.