في وسط الزحام الهائل على طابور الوظيفة، أنهى عبدالله دراسته الجامعية في أحد التخصصات الهندسية. تعرض للطرد التعسفي من إحدى شركات القطاع الخاص، وناضل مع زملائه لإشهار قضيتهم إلى ذروة أن احتلوا حلقة الثامنة مع داود. معضلة القطاع الهندسي في وطني لا تختلف عن قصة بقالات التجزئة، الأخيرة احتكار لجيوش مقاطعة كيرلا الهندية، والهندسة مختبر تجارب وتمرين ميداني لضيوف كرام من دولة عربية شقيقة، لم نعرف عنها أي ميزة أو تفوق في مجال الإنشاء والعمران والهندسة. وأخيراً وجد ضالته في إحدى شركات «مترو الرياض»، حيث يعمل باستمتاع ولذة وينزل إلى الميدان الحقيقي تحت سوط الشمس، ويقطع في اليوم الواحد بضع كيلومترات في خطوط المشروع راجلاً على قدميه. وكما قال في اتصال هاتفي: نحتفي بكل نسبة مئوية نقبض عليها في عمر هذا المشروع الجبار، ونفرح بكل متر من الإنجاز، رغم أننا نعرف أن الوصول إلى النسبة المكتملة يعني نهاية المشروع ومشوار العودة إلى حمل الملف الأخضر.

وكل ما سبق ليس من صلب المقال، وهنا الزبدة: يقول لي هذا المهندس الشاب إننا اكتشفنا من طبيعة العمل الميداني في مشروع ضخم أننا نحلق بجناحنا الهندسي ولكن ينقصنا الجناح الإداري الضروري لفهم أسرار

ما نصبو إليه من نجاح في مشاريعنا الوطنية الكبرى، نحن وبقوله، لا نحتاج إلى كوادر «دكتوراه» في الهندسة ولا حتى إلى «ماجستير» في التخصصات الهندسية الصرفة. نحن بحاجة إلى مئات بل آلاف المهندسين الذين يحملون بعد الجامعة درجة علمية في مجال إدارة الإنشاءات أو الهندسة الصناعية، هذا التخصص، وبزعمه، ضروري جداً لإدارة التكلفة وترشيد الصرف وفهم طبيعة المواد وتحسين الموارد وتقنين ميزانية أي مشروع في البدء والنهاية. والمفاجأة المدوية، وأنا هنا مجرد ناقل، أنه لا توجد جامعة سعودية تقدم هذا المسار التخصصي الجوهري رغم أن الوطن ولله الحمد ورشة عمل هندسية لا نظير لها بالتقريب. انتهيت من الحديث معه وأنا على ثقة أننا في مواجهة شركات إشراف هندسية لا تريد لأبناء الوطن أن يفهموا «الدور الأعلى» في تنفيذ وإدارة كلفة كل المشاريع. وما تفعله كل جامعاتنا في بناء برامج دراساتها العليا ليس إلا مهزلة مكتملة. لدينا مئتي حامل دكتوراه بالتقريب يتخرجون سنوياً في تخصص واحد. وبحسب تقرير قديم للعزيز، صالح الديواني، على هذه الصحيفة: ينتظم أكثر من 40% من طلاب الدراسات العليا في تخصص واحد أيضاً. أكثر من 90% من هؤلاء الطلاب في مجال الدراسات الإنسانية. وكل ما يحدث ليس إلا هدرا معلنا لميزانية التعليم العالي واستنزاف لمستقبل وطن. قصة المهندس عبدالله قد لا يفهمها إلا الراسخون في مهزلة «الأكاديميا».