عندما تقع النزاعات الأهلية وتستقر لسنوات فإنها تنتج معها مجتمع المأساة واقتصاده وعلاقاته وأولوياته، وقد شهدنا ذلك بوضوح خلال سنوات النزاع اللبناني الطويلة، إذ تحكمت مأساة النزاع في كل تفاصيل حياتنا اليومية، وكانت خياراتنا وصداقاتنا وطموحاتنا كلها أصبحت مرتبطة بطبيعة النزاع، وللنزاع أيضاً نجاحاته وهزائمه، إذ يتقدم فيه أناس على آخرين، وهناك أغنياء الحروب وفقراؤها، وأذكياؤها وأغبياؤها، وأبطالها وضحاياها، لكنها بكل تجلياتها وأحوالها فهي تجسيد مأساوي لانهيار إنساني مجتمعي.
بعد انتهاء النزاع الأهلي في لبنان، كنت أقول إنني قد قرأت في كتاب أتمنى أن لا يقرأ به أحد، وكنت أتمنى أن لا يشهد أي مجتمع إنساني ما شهده لبنان خلال سنوات نزاعه الطويلة من قتل ودمار وويلات ومآس إنسانية مفجعة، ولكن مع الأسف الشديد فبعد أن كنا نقرأ في كتاب لبنان فقط فلقد أصبح لدينا مكتبة بحالها أو موسوعة، وذلك بعد الذي حدث خلال السنوات الماضية في أكثر من مجتمع عربي ولا يزال، وأصبح لدينا لكل مأساة كتاب من ليبيا إلى سيناء وغزة واليمن وسورية والعراق.
تقول بعض التقارير إن أكلاف الحرب في سورية تجاوزت أربعمائة مليار دولار أي ما يمكن أن يعلّم الشعب العربي بأكمله في أحدث جامعات العالم، أما إذا أضفنا إليها ألف المليار الذي سرق من المالية العامة في العراق ناهيك عن أكلاف النزاع والدمار فإن الأرقام تصبح بالتريليونات، وهذا يأخذنا إلى السؤال من هي الفئة المستفيدة من هدر كل تلك الأموال؟ ومن هم أغنياء الحرب وضحاياها هنا وهناك؟ هذا بالإضافة إلى أرقام أكثر مأساوية وهي أعداد القتلى، والنزوح العربي الذي أصبح يساوي 55% من نسبة النزوح العالمي.
النزاعات كالزلازل تكون أكثر هولا عند ارتداداتها، لأن التماسك الاجتماعي في البداية يكون أقوى منه بعد سنوات النزاع الطويلة مع الدمار والتفكك الاجتماعي والإنساني، وبعد هذه السنوات الطويلة والموجعة من النزاع في أكثر من دولة شقيقة، ومع الحديث عن اقتراب بعضها من مرحلة الحلول أو التجميد في أحسن الأحوال، فإن تلك المجتمعات ستواجه تحديا جديد اسمه مأساة نهاية المأساة، لأن أصحاب المصلحة في النزاع سيحاولون بشتى أنواع الإجرام إبقاء النزاع وإطالة أمده لأن حياتهم أصبحت مرتبطة في ذلك النمط المدمر والفتاك، وليس لديهم أي فرصة بالحفاظ على مكاسبهم في زمن السلم والاستقرار.
المتضررون أيضا سيواجهون مأساة نهاية المأساة، لأنهم سيفقدون ذلك الصبر والتكييف مع المأساة، لأن توقف القتل والدمار يغير الأولويات، وسيواجهون نتائج النزاع على دولهم ومجتمعهم وأسرهم، وسيحتاجون إلى كل ما تحتاجه المجتمعات المستقرة من ماء وكهرباء وأمن واستقرار وإعادة إعمار، ناهيك عن تحديات إعادة بناء التماسك المجتمعي المفكك، وربما يكون إعادة إعمار الحجر على حد تعبير اللبنانيين أسهل بكثير من إعادة إعمار البشر.
تتحمل الدول العربية القاطرة للاستقرار أعباء كبيرة في استيعاب نتائج النزاعات العربية على المستوى الإنساني، وفِي مقدمتها المملكة العربية السعودية، والتي تجاوز دورها الشقيقة الكبرى إلى حدود الأم الحنون والحاضنة لكافة الأبناء والأشقاء، في دعم الاستقرار بكل تحدياته الإنسانية والإعمارية، ولم الشمل الوطني المبعثر لأبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد، ناهيك عن إيواء عدد كبير من النازحين داخل المملكة، بالإضافة إلى دعمهم في خيم نزوحهم خارج أوطانهم وداخل بلادهم، وخصوصا في هذه المرحلة بالذات، إذ بدأت ملامح التسويات تظهر وتستدعي استيعابا جديدا يتمثل بمأساة نهاية المأساة.