حين قال محافظ هيئة الاستثمار إن المملكة جذبت في عام 2009م 133 مليار ريال استثمارات أجنبية، واجتذبت هذه الاستثمارات 113 مليار ريال استثمارات محلية اشتركت معها في مشاريعها أبديت دهشتي من هذه الأرقام الفلكية، وقلت في آخر مقالاتي إن الاستثمارات الأجنبية ستهرول لنا كلما دعوناها للمساهمة في مشاريع البتروكيماويات التي نقدم لها الغاز الرخيص (75 سنتاً مقارنة بـ5 دولارات السعر العالمي تقريباً)، أما غير هذا فالأمر مختلف، واعتبرت ذلك التفاؤل الذي نسمعه من الإخوة في هيئة الاستثمار باجتذاب الاستثمارات الكبيرة المصحوبة بالتقنية العالية التي ستوفر مئات الآلاف من الفرص الوظيفية.. اعتبرت ذلك – فيما عدا مشاريع البتروكيماويات التي نقدم لها الغاز الرخيص – من الأحلام السعيدة.
الآن أقدم أسفي على ما قلت، فقد كنت أظن فعلاً أن الاستثمارات الأجنبية تأتي لنا هرولة كلما دعوناها للمساهمة في مشاريعنا البتروكيماوية المدعومة بالغاز الرخيص، لكن اتضح لي أنني أنا الآخر غارق في الأحلام السعيدة، فالاستثمارات الأجنبية الكبيرة المصحوبة بالتقنية العالية لا تأتي هرولة ولا حتى بطريقة السحب والمشي البطيء حتى لو قدمنا لها الغاز الرخيص، والذي يأتي هو التقنية إذا تحملنا تكلفتها العالية بإشراكها في الأرباح بأسلوب إشراكها في المشاريع الممولة بالقروض الموفرة من قبلنا، ومشروع (ساتورب) الذي سيقام بين أرامكو وشركة توتال لإقامة مجمع بتروكيماويات كبير في الجبيل أكبر برهان.
هذا المشروع عبارة عن مصفاة ومجمع بتروكيماويات على نهج بترورابغ، وتكلفته الإجمالية في حدود 12 مليار دولار، وستقدم له أرامكو الغاز الرخيص، فهل جاءت له الاستثمارات الأجنبية من شركة توتال هرولة كما كنت أظن، أو حتى بطريقة المشي البطيء..؟ أبداً.. لقد جاءت شركة توتال كما يبدو بخبرتها وتقنيتها واسمها ووزنها (كأنها عرائسنا التي تأتي أحياناً بثيابها أو ربما بدون ثيابها)، أما التمويل (الاستثمار) كما جاء في (العربية نت) فقد تم بقروض تقارب (8.5) من صندوق الاستثمارات عندنا وبعض وكالات الصادرات، ومن بعض البنوك التي كان أبرزها بنوكنا المحلية إذ اشترك في تقديم القرض بنك الرياض، والبنك السعودي الفرنسي، والعربي الوطني، ومجموعة سامبا، والبنك الأهلي، والسعودي الهولندي، وبنك الاستثمار، والجزيرة، والإنماء، بل وحتى البنك الإسلامي للتنمية ساهم في تقديم القرض.. وقد تم توفير هذا القرض فيما يبدو كما يفهم مما جاء في (العربية نت) منذ عدة أشهر، أما ما بقي من التكلفة فقد تم توفيره من قرض تم الإعلان عنه منذ عدة أسابيع من صندوق الاستثمارات العامة بمبلغ 1.3 مليار دولار، وعلى هذا تكون شركة توتال لم تساهم في تلك التكلفة البالغة 12 مليار ريال بغير حصتها من رأس المال المتواضعة، هذا إن لم تكن قد وفرته أيضاً بقرض من عندنا كذلك.
أرجو ألا يفهم من هذا أني أقلل من أهمية مثل تلك المشاريع أو من ضرورة استجلاب التقنية والخبرة.. لا.. أبداً.. بل أرى أن مثل تلك المشاريع حيوية وضرورية، واستجلاب التقنية والخبرة يستوجب منا دفع كلفتها العالية بصدر رحب عن طريق إشراكها في الأرباح بطريقة المشاركة في المشاريع الممولة من صناديقنا وبنوكنا.. هذا أمر لا شك فيه ولكنه ليس محور النقاش، فمحور النقاش هو هل تلك المبالغ الضخمة (12) مليار دولار لمشروع (ساتورب) هي استثمارات أجنبية كما يفهم من تصريحات محافظ هيئة الاستثمار..؟ لا.. لا أظن ذلك.. فهي استثمارات وطنية اجتذبنا بها وبالغاز الرخيص تلك التقنية والخبرة اللتين لا شك تستحقان ذلك، لكن ينبغي أن نسمي الأشياء بأسمائها فنقول إننا نجتذب التقنيات والخبرات الأجنبية بأثمانها، ولا نجتذب الاستثمارات الأجنبية.
إني أشكر هيئة الاستثمار على جهودها في إعطاء المملكة مركزاً متقدماً في مجال التنافسية الدولية، وأحضها على الاستمرار في اجتذاب التقنية والخبرة حتى لو كان ذلك بكلفة عالية يتم دفعها من قبلنا، ولكن أتساءل في الأخير فأقول إذا كان هذا هو حال الاستثمارات الأجنبية في استثماراتنا البتروكيماوية المدعومة بالغاز الرخيص، فكيف هو هذا الحال بالنسبة لمشاريعنا الكبيرة الأخرى التي تحتاج للتقنية العالية والخبرات الجيدة والتي لا تتوفر لها مزية كحال مشاريع البتروكيماويات..؟ هل يمكن أن نشم فيها ريح الاستثمارات الأجنبية ولو شماً..؟ إني أشك في ذلك، وهذا هو ما عبرت عنه بأحلام هيئة الاستثمار السعيدة.