بالنسبة لأجيالنا التعسة، أعني من تفتحت أجفان طفولتنا، قبل أربعين عاماً، على الأقل، على الآمال الكبرى، نحن الذين ترعرعنا على وهم الانتصار اليتيم 1973، بينما هزيمتنا الحضارية كانت في طريقها لتكتمل، إذ قذفت بنا حسابات ذلك الزمن إلى أشد خصوم الحياة ضراوة، أعداء العيش والتعايش، من وعدونا بالجنة ثم «لم يعطونا غير الجحيم»، وهكذا لم يكن أمامنا إلا مخرج واحد؛ لا كيانات ولا ضمانات ولا مشاريع نثق بها، إذًا سنعمّر ذاكراتنا بالوجوه البطلة، بالأحداق المشعّة والصامدة. وهكذا أصبحت الأشهر والأيام سنةً بعد سنة، مناسباتٍ للنعي بشكلٍ دوري.
ما هو ظرفنا التاريخي، نحن قليلو البخت؟ اغتيالات وثمانية حروب مباشرة، حركات متطرفة، وانحسار للفنون والنمو الكريم، وأزمات تعليم وصحة وسكن. ما المشروع الذي ألهب شبابنا المبكر؟ إنكار الحياة، وتزويد المقابر بتدريبات اليأس. ما المشاهد الملهمة؟ النحيب الجهنمي على المنابر، وتغسيل الجثث في المدارس والمراكز والمخيمات. ماذا عن شعلات الصبا والمراهقة؟ كثيرون صاروا فحماً في ميادين الجهاد المفوتر والمستعمل. والفرص المتاحة ماذا كانت؟ طريق واحدة، اسمها النشوء والترقي الحزبي، من مسارح الجوالة، وأقبية الخلايا الأسبوعية ومناشط المعاهد والثانويات، إلى قيادات المدارس وإدارات الجامعات.. وأجهزة الدولة، هل تغير شيء؟... منذ عشرة أيام، نعم، القليل نعم.
ينظر الناجون من أجيالنا لمرور الأيام، بشيءٍ من الغبن، كل شهر في العام، ليس سوى متاهة تذهب فيها أعمارنا دون مقابل، ولا شيء ذو بال لنتذكره، لا نتذكر مشاريع ولا منجزات، حتى لو وجدت، نتذكر أفراداً فقط، وبالذات أولئك الذين ساعدوا وحدتنا وشغفنا، الذي احتفظنا به، رغم كل ما حدث، من الفنانين والأدباء والمفكرين وحتى لاعبي الكرة. وقد أصبحت هذه هي طبيعتنا المشتركة؛ نعتمد على الحنين وحب العظماء الذين يشبهون فكرتنا عن الأمل، نفرح بإفراط، ونحزن بغضب.
ملحوظة سبتمبر وأكتوبر 2017: ولي العهد شاب، وهو من أجيالنا هذه نفسها، كما تعلمون، رأى ما رأينا، وعاصر ما عاصرنا، ويعرف بالتأكيد حجم القصة وثقلها، ومع انتظار الكثير من الرؤية، والتحول، ومشروع المستقبل، نحو دولة المدنية والرفاه والعدالة والحقوق، فقد كانت الأيام العشرة من 23 سبتمبر حتى 3 أكتوبر، أشبه برد اعتبار أولي، لثلاثة أجيال على الأقل. شكراً.
أخيراً؛ كنت قديماً إذا سمعت كلمة «الآمال» لمعت في ذهني صورة سفح مغمورٍ بالضباب والمجهول، لا تسكنه إلا ذئاب، مهمتها أن تفاقم الدم والسأم، وإذا مرّت عيني على كلمة «موات» رأيت وعول السماء والأسماء العزيزة، تنفر فجأة، لا تنظر إلى الوراء، وتعبر الشفق بقفزة واحدة، تاركةً شهيقها الأخير على مياهنا الراكدة.
كل هذا يتغير الآن، ودعائي أن يستمر، فشمسٌ أخرى تطلّ من بعيد.