شهِدَت المملكة العربية السعودية خلال الأسابيع الأخيرة عديدًا من القرارات الإصلاحية التي تدفع البلاد نحو مزيد من الواقعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية على كل المستويات. هذه القرارات لم تمرّ دون تفاعل عالميّ معها، خصوصًا وسائل الإعلام، التقليدي منها والجديد على حد سواء، وكانت إيران إحدى الدول التي شهِدَت حالتين مختلفتين، بل ومتضادتين، من التفاعل، إحداهما من الجانب الرسمي، والأخرى من الجانب الشعبي.

على المستوى الرسمي ظلّ النظام الإيراني يحاول تقليل أهمية أي قرارات تتخذها المملكة، ويعمل على شيطنة التوجُّهات السعودية وتفسيرها بأسوأ الاحتمالات وإن كانت مستحيلة، وهو التوجُّه نفسه الذي اعتادته إيران

الخمينية منذ تأسيسها.

وإذا عدنا إلى الوراء قليلًا لوجدنا محاولات التقليل من أهمية «رؤية السعودية 2030» ومشروع التحوُّل الوطني، ومحاولات تسييس مثل هذه التوجُّهات، ومزاعم أن المملكة لا يمكنها مُطلَقًا أن تحقِّق ولو جزءًا يسيرًا منها. وبعد القرارات الأخيرة، بخاصة حيال ملفّ قيادة المرأة للسيارة وتخفيف كثير من القيود عن المرأة، زادت حِدَّة التفاعل الإيراني مع ذلك، فزعمت طهران تارةً أنها إملاءات خارجية، وتارةً أنها قرارات متعجلة وغير مدروسة، وتارة أن السعودية تتخذ مواقف معادية للإسلام، وتريد أن تسلخ المجتمع عنه فتبثّ بقراراتها العداء للدين الإسلامي، وما إلى ذلك من نظرات عجيبة بعيدة عن الواقع، على الرغم من أن طهران نفسها كانت من قبل تنتقد السعودية بسبب عدم السماح للمرأة بقيادة السيارة، وبعض القيود المجتمعية الأخرى، فأصبحت الآن -على النقيض- تعتبر مثل هذه القرارات التي تخفِّف هذه القيود، مؤامرةً وضغوطاتٍ خارجية، بل وصل الأمر إلى أنها ربطت بين هذه التغييرات والعمل الإرهابي الأخير الذي استهدف نقطة حراسة أمام قصر السلام بجدة.

أما على المستوى الشعبي، بخاصة بين الشباب الإيراني، فوجدنا تفاعلا إيجابيًّا كبيرًا، وأصبحت النقاشات بين الإيرانيين في مواقع التواصل الاجتماعي لافتة وجديرة بالاهتمام والملاحظة. قد لا يكون الشباب الإيراني مهتمًّا أو مباليًا بما يدور في الداخل السعودي أو العربي عمومًا، ولكنه يلتقط مثل هذه الأخبار والقرارات ليقارن بها الأوضاع في الداخل الإيراني ووعود الساسة المستمرة في طهران، بإجراء كثير من الإصلاحات، بخاصة تلك الوعود التي يطلقها المسؤولون المحسوبون على ما يُسَمَّى «التيار الإصلاحي». على سبيل المثال وجدنا الشباب الإيراني يقارن بين الشعارات الإصلاحية التي كان يُطلِقها الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، ويطلقها الرئيس الحالي حسن روحاني، ويقول إن مثل تلك الوعود تُطلَق لأهداف انتخابية فقط دون تحويلها إلى واقع ملموس. وفِي المقابل يجد القيادة السعودية جادَّةً في الإصلاح وتحوِّل الوعود إلى واقع ملموس في وقت قياسيّ.

يقول كثير من الإيرانيين في مواقع التواصل، إن الإصلاحات التي أجرتها السعودية خلال أسبوع أو اثنين تفوق جميع الإصلاحات التي قدَّمها النظام الإيراني منذ انتصار الثورة، بل وصل الأمر بأحد الشباب الإيراني إلى إطلاق اسم «المملكة العربية الصُّعودية» بدل «السعودية»، ليرمز إلى التطوُّر السريع الذي تشهده المملكة، وقد حثُّوا النظام الحاكم في طهران على الاقتداء بالقيادة السعودية في هذا الصدد، والتخلِّي عن الوعود الكاذبة.

ينبغي هنا أن نشير إلى حقيقة أن النظام الإيراني يخشى كثيرًا انفتاح المجتمع الإيراني على دول الجوار ومتابعة الجوانب التنموية والإصلاحية فيها، خشية أن يُحدِث ذلك بلبلة في الداخل الإيراني، لذلك يتبع النظام سياسة الشيطنة وبثّ التفسيرات السلبية لكل التطوُّرات الجارية حول إيران، ويحاول تشبيهها بالمؤامرات أو الإملاءات أو معاداة الدين، وإن كانت قرارات تطويرية بحتة، إلا أن المجتمع الإيراني يُظهِر وعيًا حقيقيًّا ومتابَعةً دقيقة لكل ما يدور في الإقليم، ويُسقِطه على الداخل الإيراني ومدى تفاعل النظام أو جموده تجاه الشأن الداخلي والإصلاح، وإعادة النظر في كثير من القيود المفروضة، بخاصة حجب قنوات التواصل ومحرِّكات البحث ومنع الستالايت ونحو ذلك، ممَّا يقود المجتمع إلى البحث عن طرق بديلة وملتوية للوصول إلى العالَم من حوله والارتباط به.

الخلاصة أن النظام الإيراني يرى أن التهديد الحقيقي يأتي من الداخل لا من الخارج، وأن حالة التذمُّر بين فئات الشباب تشكِّل ضغطًا ملموسًا على النظام، لذلك يحاول مسؤولو نظام ولاية الفقيه شَغْل الداخل بصراعات الخارج والعزف على وتر «المظلومية» و«التآمر»، لكنّ مثل هذه الاستراتيجية لا يستمرّ طويلًا، وإذا ما أراد خامنئي التخلُّص من هذه الضغوط فعليه الالتفات إلى الداخل والتوقُّف عن سياسة «تصدير المشكلات» والتدخُّل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.