الإبداع هو رؤية الأشياء بطرق جديدة، وكسر الحواجز التي وقفت كتحدّ في طريقنا، الإبداع هو رؤية الناتج قبل أن يصبح واقعا، الإبداع هو سماع لحن جديد في جنبات الروح، أو رؤية أبجدية تتحرك لتغزل رواية على أوراق بيضاء، روعتُها في الغوص في أعماق عالم الأحلام، والخروج بواقع جديد. السؤال هنا هل نحن كتربويين نهيئ جيلا من المبدعين؟
تطالبنا الحياة اليوم بأن نهيئ شبابا على التفكير بشكل خلاق للمساهمة في تطوير وبناء المجتمعات، رغم التطورات السريعة للتكنولوجيا واستخداماتها، والتي تقدم كل شيء يمكن أن يفكر فيه الإنسان لخدمته، ولكن تظل مهمتنا الأساسية هي ضمان أجيال قادمة قادرة على التحكم، بحيث تظل هي المحركة وليست التابعة، أجيال من القادة والمخترعين والموسيقيين والرسامين والرياضيين مسلحين بالقدرات التي تمكنهم من نقل البشرية إلى مستوى آخر.
ولكن ماذا يجري في مدارسنا؟ لقد ركزنا على الاختبارات خاصة القياسية الموحدة، ونسينا الهدف الحقيقي للتعليم! هل نُعلم من أجل بناء شخصية متكاملة خلاقة، أم نعلم من أجل وظيفة، مركز ومال؟ هل الطالب منتج أم إنسان برغبات وميول وأحلام وقدرات؟ هل نريد أن نبني إنسانا أم روبوتات بفكر موحد غير قادرة على الرؤية خارج الصندوق؟ ألا نريد جيلا يعتز بفكره، مبدعا خلاّقا، يعمل دائما على تقديم أفضل ما لديه وما يستطيع أن يصل إليه ومن ثم يستزيد، يناقش ويجادل ويُعرّف ماهية المستحيل، ومن ثم يواجه التحدي، نريد جيلا مستقلا لا يقبل أن يُشّكل أحد غيره مكونات حياته؟
نحن نقدم للطلاب نماذج إما للحفظ أو التقليد، نعطيهم خيارات من متعدد، ونحن نسألهم عن رأي أو انطباع، نوفر لهم ملازم وملخصات ونطالبهم بالاستنتاج! نوفر لهم فصولا ومدارس ومناهج وكتبا ومقررات ووسائل تعليمية وتكنولوجيا، نعم نوفر لهم كل شيء، حسب منظورنا مما يسهم في العملية التعليمية، إلا حرية التعبير عن أفكارهم! نشتكي من إدمانهم على شبكات التواصل الاجتماعي، وننسى أنها الوسيلة الوحيدة التي تسهم في إيصال أصواتهم!
إن التعليم ليس حول حقائق ومعلومات يتم تخزينها لاسترجاعها وقت الطلب في الاختبار، التعليم هو الروعة في إطلاق الخيال، هو الجمال في تغذية ورعاية واحتضان الإبداع، التعليم هو إثارة الفضول، وتحريك الدافعية، التعليم هو بناء شخصية عصرية حضارية متكاملة مستقلة، نعم في مكان ما وفي خضم معاركنا وسعينا وراء التعاميم والقرارات والشهادات والدبلومات غرقنا بين أطنان الورق، ونسينا المعنى الحقيقي للتعلم، نعم أقصد التعلم وليس التعليم! ففي هذا السباق المجنون من أجل الأعلى والأفضل، وفي ظل انبهارنا بالرقم واحد، أصبحنا نؤهل أجيالا تتسابق إلى حيث لا نهاية ولا هدف! من المفترض أن يكون التعلم رحلة ممتعة، تتضمن الكثير من الجهد، ولكن خلالها يستطيع المتعلم أن يتذوق حلاوة طعم المعرفة، ويشعر بنشوة الإنتاج الخاص بفكره، كيف له أن يتم ذلك إن كان المطلوب منه أن يتسمر لساعات على مقعده، لا يحق له في أحيان كثيرة أن يسأل، وإن تم التفسير ولم يفهم وسأل مرة أخرى يعامل وكأنه مختل أو ارتكب جريمة؟!
كيف يقوم على تطوير نفسه وهو يرى القدوة أمامه لا تحاول على الأقل تغيير أسلوبها أو تطوير طرقها لتصل إليه؟! المطلوب من الطالب أن ينمو وبنفس الوقت يرى معلمه هو ذاته لا يتفاعل مع آرائه ونقده، بل يفضل هو ذاته من بداية السنة إلى نهايتها؟! وإن حاول وخرج بتفكيره خارج الصندوق ربط بالسلاسل وأعيد إليه، لأنه قدم ما لا يستقيم مع المطلوب، وهو الإجابة «أ» للسؤال الثاني من الاختبار! ماذا عن المشاريع، ماذا عن الفرص لمن تعثر، ماذا عن التعلم؟ هل هو الدرجة على ورقة الطالب أم البناء المعرفي في رأسه؟!
بدلا من أن نركز كيف أن فنلندا تحصلت على المركز الأول أو السويد أو أميركا أو ماليزيا، لنركز على ما يجري في عقول طلابنا ووجدانهم، بالطبع لا نريد أن ندلل ولا نريد أن نطبطب، ما نريد هو أن نخلق التحدي ونطلق الإبداع الذي بداخلهم، نعم نريد التنافس، ولكن أن يبدأ بتنافس الطالب مع قدراته الحالية حتى يصل إلى أقصى طاقاته، عندها سوف يتفوق طلابنا، ويصلون إلى المراكز الأولى، في النهاية نجد أن مقولة «لا يوجد طالب فاشل، بل يوجد تعليم فاشل» هي أصدق تصور لما يجري داخل العملية التربوية، إن أردنا أن ننجح فيجب أن نسعى إلى أن نحيي حب التعلم في نفوس الطلبة، إن استطعنا كمعلمين ومعلمات أن نسقط هذا الجدار الذي تراكم حول عقول الطلبة، أن نعيد إليهم حبا قديما كان رفيقا عند أولى خطواتهم إلى المدرسة، حبا اقتلع من قلوبهم وأُسكنت بدلا منه الرهبة والرفض والتمرد، حينها فقط نستطيع أن نقول إننا نجحنا.