أمر في غاية التعقيد وعدم الحدوث، أن نعتبر الآن أن الغناء تحديدا، والفن عموما، هو انعكاس للوجه الحضاري والثقافي لبلداننا العربية، ذلك أنه لم يعد هناك غناء مشرّف الآن، أو بمعنى نقدي أدق: غناء يحتوي على الحد الأدنى من الشروط الفنية والإبداعية، وإن وجدنا فلن نجد أكثر من أعمال قليلة متناثرة هنا وهناك، فلا هنا تشبع الذائقة، ولا هناك تُنمّي الذوق الجمالي.

الآن، دعونا نطوف ونتأمل عشرات الفضائيات العربية المتخصصة في مجال الغناء وحده، ومع هذا الكم الكبير  من هذه القنوات المفتوحة للصراخ على مدار الساعة، لن تقع الأذن على أصوات أسطورية، كأصوات عبدالحليم وميادة وأنغام وطلال مداح ووردة الجزائرية وغيرهم، ممن صنعوا لأنفسهم ليس فقط بصمة صوتية مبهرة في الوجدان السمعي، وإنما كذلك بصمة تاريخية، تعكس أهمية زمنهم، وتجعل أغانيهم وأعمالهم تدور إلى الآن، في كل مكان، وبالذات على منصة اليوتيوب الشهيرة، بل تحقق رغم قدمها الزمني، أرقاما من أعلى المشاهدات، رغم رحيل بعضهم عن دنيانا هذه، وما زالوا في ذاكرة الناس، وذاكرة الفن الحقيقي، ولا أظن أحدا من فناني هذا الجيل سيخلد خلودهم، بل إن في هذا الجيل زحاما وتداخلا في الألسنة واللهجات، حتى لم يعد الفنان يدلّ على أرضه، وحكاية اللهجات الفنية بحاجة لتفصيل.

كل مغنٍّ هو غرس بلاده، ونبت أرضه، وهو واجهة تمثل موطنه الأصل، وتمثل لسان الوطن ولهجاته وألوانه، وطعمه ورحمه.

كل العراق بماضيه وحاضره، بفرحه وحزنه، بتاريخه وجغرافيته ومائه وسمائه، كان يتشكل أمامنا ونحن نسمع أغاني سعدون جابر وقبله ناظم الغزالي.

كنا نشم بحر البحرين ونتحسس لآلئه في أصوات الشيخ والجميري، لأنهما يغنيان بلهجة البحرين، ونرحل في الإمارات كلما رحلنا في لسان ميحد حمد وهو يغني بلهجة الإمارات، ونذهب بعيدا في خارطة المغرب، ونحن نردد أغنية (مرسول الحب) لعبدالوهاب الدوكالي.

بنفس المسافة كنا نحمل حقائب اللهجة، ونتسكع في حارات مصر، ونحن نسمع أغاني كبار مطربي مصر، المخلصين للهجتهم وهويتهم.

بنفس المسافة ذاتها كنا نقاسم العمال اليمنيين المغتربين، وهم يرددون بلهجة يمنية خضراء، سمراء، مع فيصل علوي: كيف الحال يا مغترب؟ فكأنهم يعودون إلى اليمن من خلال اللهجة.

ما أريد إيصاله أن ميزة الفنان في محليته، وأن ما نسمعه الآن من تداخل لهجات في الأغاني أضاع الغراب وأضاع الحمامة.

مصري يغني بالخليجي، وعراقي يغني بالمصري، وو.. وكلهم لا يجيدون اللهجات، فتظهر مضحكة باردة لا روح فيها ولا فوح.