ساقته غريزة حب الوطن إلى الحضور مبكرا إلى موقع الاحتفاء باليوم الوطني الـ 87 للمملكة العربية السعودية، لم يمنعه تقدمه في العمر من المشاركة في يوم الوطن، لباسه الشعبي البسيط، وجنبيته التي تطوق خاصرته، جلوسه وحيدا بعيدا عن مسرح الفعاليات، ورفضه رغبة المنظمين في التقدم نحو المسرح، في مقاعد خاصة بكبار السن، كل ذلك دفع فضولنا الصحفي أنا وزميلي المصور إلى الجلوس بجواره، بعد السلام والاستعلام، صمت وشردت عيناه المكحلتان بعيدا عنا دون أن يرف لهما حاجب، في كل مرة نوجه له الكلام لم يرد علينا ومع الإلحاح في السؤال، كان يكتفي بنعم أو لا، أيقنا ألا فائدة من بقائنا بجواره، مع قرب انطلاقة الحفل، هممنا بالتحرك وتغيير مواقعنا، أمسك المسن بيدي اليمنى وبقوة لم أعهدها في كهل بعمره، وقال بلهجته العامية «يا ولد من ذولا»، فورا جاء ردي، رعاة الحفل وصلوا «تكفى فك يدي»، ومن ذاك قلت رئيس البلدية وذياك قلنا المحافظ وذولاك قلنا مدير التعليم ومدير الشرطة والأحوال والمستشفى والزراعة والدفاع المدني، عندها قاطعني وعنفني يا ولدي أعرفهم «الله يحييك»، هيا وذا جاء متأخر «نطقها بلهجته التهامية الجميلة» قلنا قائد حرس الحدود، بدت على وجهه النشوة والفرحة زاد من ضغطه على كفي حتى أيقنت أنه كسرها، وردد أشهد أنهم كفو كفو كفو، ولا نقصان في الباقين «أفعالهم تشهد لهم»، عندما لاحظ في وجهي الغضب، فك يده التي تشبه الكماشة عن معصمي، وقال رح في حفظ الله، صديقي المصور قال ياخي هذا مسكين، قلت لا والله «حن المساكين»، لقد استوعبت الدرس كاملا مع عفوية هذا الرجل البسيط بل الرجل الوطني بامتياز، الذي أرسل رسالة اخترقت العظم! قال كيف؟ فهمت رسالته! اسمع يا صديقي عندما ضغط بقوة على معصمي لحظة تعريفه بقائد حرس الحدود أيقنت أن الشعور والإحساس بقيمة الوطن والتعبير عن حبه واجب وطني على الجميع التفاعل معه والمشاركة فيه!

نعم الكهل رسالته وصلت! كيف نحب الوطن؟ كيف يستشعر كل مواطن دوره تجاه هذا الكيان العظيم؟ الوطن لا تكفيه الجمل والعبارات الرنانة ولا تكفيه الاحتفالات والمهرجانات والمسيرات في يوم الوطن فقط! يوم الوطن دلالاته أكبر من ثقافة تضخيم الذات واستعراض المشالح على المنصات من صاحب قرار أو جاه أو مال! الوطن يحتاج من هؤلاء وكل مسؤول أيا كان موقعه إلى وقفة صادقة مع الذات يحتاج إلى مراجعة حقيقية وتقديم كشف حساب لكل ما قدموه من إنجازات، ولو لعام واحد بدافع الوطنية والانتماء- الوزير في وزارته _والطبيب بين مرضاه، ورجل الأعمال في تعاملاته، وإمام المسجد في خطبه، المعلم مع طلابه، الأب مع أبنائه، رئيس البلدية والأمين، الجميع مطالبون أمام الله ثم أمام الوطن بكشف حساب ذاتي، هل قام بواجبه وأدى الأمانة التي حملها إياه ولي الأمر؟

لقد أيقنت أن العقل الظاهر لدى هذا المسن! يتمنى أن يخصص كل مسؤول صغر حجمه أو كبر، جزءا من ذاكرة عقله الباطن ليدون ويخزن فيها أفعاله وإنجازاته تجاه هذا الوطن، هؤلاء البسطاء، أصبحت أحلامهم مرتبطة، بمدى وعي هؤلاء المتنفذين بأن الإخلاص في العمل من حب الوطن، والأمانة والحفاظ على المال العام من حب الوطن، وتقديم المصلحة العامة على المصالح الذاتية من حب الوطن! وتدوير كراسي المتخاذلين والفاشلين من حب الوطن، ونبذ الإرهاب ومحاربة الفساد من حب الوطن، وطاعة ولي الأمر من حب الوطن، سعادة هؤلاء البسطاء أن يصبح اليوم الوطني من كل عام موعداً للفرحة والبهجة والاحتفالات بذكرى غالية وعزيزة على الشعب السعودي، يتزامن ذلك مع تقديم كشف حساب لكل ما قدم لهذا الوطن، هل فهمت يا صديق الرسالة «نعم نحن المساكين»!