لا يملك المرء وهو يشاهد حديث سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وحواره بمنتدى مبادرة مستقبل الاستثمار، إلا أن يستشعر أفقا جديدا ترتاده السعودية، وطموحا وثابا ودافقا بالحُلم والعزيمة وحيوية الشباب تجاه المستقبل.

لغة جديدة يتحدثها سمو الأمير، لم نسمعها من مسؤول في مثل مركزه من قبل، لغة تدلِّل على انعتاق من مرحلة كانت مستسلمة لريع البترول، وما ينشئه أفق اقتصادي على هذا النحو من تكاسل وإهدار للطاقات، ومن انغلاق ثقافي، ومن انكباب على اللحظة الحاضرة التي تحجب عن الاستشراف والتطلع والطموح.

إنها المرحلة الأسوأ في تاريخنا الحديث؛ مرحلة الطفرة المادية البترولية حين التقت بالفكر الديني المؤدلَج المسمَّى بـ«الصحوة»، وهو فكر تسلطي يشيع لغرضه هذا، التوجس من العالم والعداء له، والهَوَس بالعودة إلى الماضي، والتطرف في فهم الدين وتأويله. وقد تمكن من التسيُّد والانتشار، وفرَضَ فكر وصايةٍ أحاديا كادت الحياة السعودية معه أن تجمد وأن تتحيَّر عجلة التاريخ.

وأظن أن تأكيد الوعي الذي يفيض به فكر الأمير وطموحه، والعمل على إشاعته، متطلب جوهري لتأهيل هذا المنعطف التاريخي الذي بات حتميا لتجاوز الكثير مما لم يسعفنا إنجازه فيما مضى، ولاستيعاب زمن مختلف لم تعد تصلح له أفكارنا التي أسرتنا في شرنقتها طويلا.

أول ما يلفت النظر في لغة الأمير حفاوتها بوجهة المستقبل، وهذه الوجهة لا تَنْتُج إلا عن رؤية تنزع إلى الحركة والتحول والتطوير وليس الثبات والسكون والجمود. ومن متطلبات نزوع بهذا الخصوص الشجاعة والحيوية، فالمخاوف والأوهام أو الرغبات التسلطية المحافِظة التي تعوق التطور هي دائما دلالة جُبن ودلالة حُمق. وإذا تحدثنا عن المستقبل فنحن نتحدث عن الأحلام والآمال، وفي العمق نعي أننا نعاني فقداً ونستشعر قصوراً، هما العلة التي تستدعي أحلامنا وآمالنا، فمن دون الوعي بمشكلة، ومن دون الإحساس بالفقدان، لا مدعاة للحُلم، ولا طموح إلى المجاوزة.

يقول الأمير: «مشروع (نيوم) للحالمين ولغير التقليديين»، هنا مفصل الطموح ووعيه، فالحُلم طاقة استشراف، ونبوءة بالآتي، ونزوع إليه. وليس شيءٌ يقضي على الأحلام والطموحات مثل تسلط التفكير التقليدي عليها، وأَسْرها في وجهة ترى النموذجية في الماضي واستعادته لا في الحُلم بمجاوزته، والابتكار للمستقبل.

ولا يليق الحُلم ولا تَرِفُّ خيالات المستقبل ولا يُدْفَع إليها، إلا بحس الشباب وحيويته، ولهذا قال الأمير: «سلاحنا الحقيقي هو الشباب». فالشباب سلاح فعلي لإحداث الجِدَّة والتغيير، لأن الشباب يمتلك مؤهلات ذلك.

والدلالة الأبرز التي تعني الشباب في هذا الصدد، هي قوتهم الحيوية، وجِدَّتهم العقلية، وشغفهم بالمغامرة، واستيعابهم لأدوات العصر وتقنياته، ووعيهم بزمن جديد، وقابليتهم للتفاعل معه، وضيقهم بالبالي والتقليدي، وشعورهم بالأسى مما يعتري الواقع من شعور بالهَرَم.

وإذا كانت صفات الشباب هذه قوة إيجابية، أي قوة تجديد وبناء وتطوير، فإن الشباب حين يتجرد من الطموح إلى المستقبل، ويُعبَّأ بالعدمية واليأس، أو تأسُره الأصولية والتطرف، يستحيل إلى سلاح تدمير مؤسِف على ما ينتج من تدميره، ومؤسِف على خسارة طاقته البنَّاءة وجِدَّة روحه.

والوعي بالشباب في وجهة المستقبل، ينبغي أن يستوعبهم من حيث هم سلاح لإحداث الحركة التاريخية، ومن حيث هم مشكلة ينبغي انتزاع فتيلها وتوجيهها الوجهة البنَّاءة.

ولم يغب الوعي بمشكلة التطرف عن دلالات حديث الأمير، فالتطرف ليس مشكلة محدودة وحَسْب، في الجماعات الإرهابية التي احترفت التكفير والتشدد، ومارست القتل والتدمير ضد مواطنيهم وضد الآخرين، بتأويلات دينية محرّفة وأوهام سقيمة. إنه أيضا الفكر الانعزالي المتجافي عن العصر، والمعادي له، والمحتجَز في أفكار جامدة، وتصورات تقليدية عفا عليها الزمن، حين يسعى أصحابه إلى فرضه على غيرهم.

وهو إلى ذلك، الفكر الطائفي والعنصري المعادي للآخر، توهماً لدم أزرق يجري في عروق أصحابه ويميِّزهم عن غيرهم، ونزوعاً إلى الكراهية للمختلف بأي معنى والتحقير له، بما في ذلك التطرف الذي تقترفه الثقافة في تمييزها ضد المرأة.

لقد قال الأمير: «سندمِّر الأفكار المتطرفة اليوم، والمنطقة ستعود للإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب».

أنْ تبنيَ تحولا اقتصاديا واجتماعيا يعني أنْ تبنيَ ثقافة جديدة، ولقد كانت مشكلتنا في المملكة دوما، الحُلم بالتنمية والتطور المادي، ولكن من دون قصد جِدِّي على ما يبدو، إلى بناء وعي ثقافي وترشيده، بما يردم الهوة الفاصلة بين الإنسان والتقدم المادي الذي يحيط به.

وإذا كان أحد وجوه القراءة للعنف الناتج عن الفكر الأصولي المتطرف، يتفهّمُه في ضوء هذه الهوة بين الثقافة التقليدية المحافظة ومنتَجَات العصر التي تقتحم علينا حياتنا، فإن أي تطوير مادي لن يثمر إيجابياً في مجتمع منفصل بوعيه عنه، لأنه إن لم يعاد هذا التطور ويرفضه فإنه سيستثمره في تعزيز واقع أكثر انغلاقا وعُزلة وتخلفا.

ويلفت النظر في فكر الأمير وكلامه، شعورٌ دقيق بالحساب للزمن، خصوصا حين قال في حماس ونبرة جِديَّة: «70% من الشعب السعودي أقل من 30 سنة، وبكل صراحة لن نضيِّع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة: سوف ندمِّرهم اليوم وفوراً. نريد أن نعيش حياة طبيعية ونتعايش مع العالم».

إن الزمن لا ينتظر، وكل فعل حضاري ناهض لا يكون إلا في اللحظة التي يغدو الشعور بالزمن حقيقيا في وعي الشعب وقيادته، ومُلحّاً وحثيثاً. ففي حال التخلف والجمود لا قيمة للزمن، لأن حساب الزمن هو حساب للحركة والتغيُّر، وذلك فعل نهضوي وحضاري بأصدق دلالة وأتمها.

ما أحوجنا إلى همَّة الأمير محمد بن سلمان، وإلى رهافة وعيه باللحظة التاريخية، وإلى حسِّه بالزمن، وبصيرته في اكتشاف العوائق الحقيقية للتنمية والتقدم، وإلى روحه التي تبث شعورا وطنياً جديدا وأملاً في الغد.

لم تكن حاجتنا إلى شيء أكثر منها إلى هذا الوعي والحِس والبصيرة: الوعي الذي يفتح أفقا جديدا جريئا ملهما ومتطلعا إلى وجود كريم مع باقي أمم الدنيا، والحس الذي يتألم لضياع سنوات من عمر الوطن في توجسات وأوهام ومخاوف على ذات متخيَّلة خارج التاريخ، والبصيرة التي تكشف عن عِلَّة ذلك الضياع وأسباب استقالتنا من مهمة الصناعة للزمن والإسهام الفعلي في مضمار الحياة الحديثة.

إن لدينا مشكلات تنموية عديدة: البطالة، وتعثُّر حلول الإسكان، وضعف مخرجات التعليم، والحاجة إلى مزيد من التمكين للمرأة، واستكمال تقنين القضاء وتحديثه، وإشراك المواطنين في صناعة القرار، وفتح فضاءات للحرية… إلخ. ولكن هذه المشكلات ليست منفصلةً عن بعضها، والحل لها هو في التأسيس الجديد والوعي الجديد اللذين يبشِّر بهما سمو الأمير.