قبل 56 سنة فقط أعلنت الصين عن وفاة 15 مليون شخص جراء المجاعة الكبرى التي تعتبر أكبر مجاعة في تاريخ الحياة البشرية، الإحصاءات الرسمية للحكومة الصينية تقول إن عدد ضحايا المجاعة 15 مليونا فقط، بينما أكد المؤرخ فرانك ديكوتير الذي تمكن من الاطلاع بشكل خاص على أرشيف الصين أن عدد الضحايا لا يقل عن 45 مليون شخص بين الأعوام 1958 و1962، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن والحكومة الصينية تحقق تقدما كبيرا في محاربة الفقر حتى أعلن رئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم في أغسطس الماضي إشادته بجهود الصين في مكافحة الفقر، والتي انتشلت بنجاح مئات الملايين من الفقر، بسبب استجابة الحكومة الصينية للحقائق الجديدة للسوق ودفع التنمية في بلادها.

خلال الـ56 عاما انتقلت الصين من فقر قتل الملايين من شعبها جوعا إلى إشادة دولية في مكافحة الفقر الذي وصل في عام 2012 إلى معدل 10.2% ومن ثم إلى 4.5% فقط في عام 2016 وخلال السنوات الأربع فقط، استطاعت تخليص 55 مليون مواطن صيني من الفقر. هذه النجاحات في مكافحة الفقر لم تأت نتيجة النمو الصناعي والاقتصادي في الصين فقط، بل لتعهد الحكومة الصينية بمكافحة الفقر ووضع الخطط والبرامج التي تضمن خفض نسبة الفقر بين أفراد شعبها إلى نسب متدنية، بل وتطمح بحلول عام 2020 بأن يكون معدل نسبة الفقر صفر%، وذلك بتخليص 10 ملايين شخص من الفقر كل عام منذ عام 2012، وهذا تخطيط معقول جدا، وقابل للتطبيق لو نظرنا لحجم الميزانيات والخطط الطموحة.

أهم الخطوات التي اتخذتها الصين في تجربتها للقضاء على الفقر، هي الاهتمام بالقرى النائية والأرياف البعيدة المنسية في الغابات وأعالي الجبال وبطون الأودية التي تحوي 600 ألف قرية، حيث استثمرت الحكومة الصينية لتأسيس البنية التحتية فيها منذ عام 2003 أكثر من تريليون دولار. عبدت خلالها الطرق، وأدخلت الكهرباء والماء والإنترنت، مما يعني أن هذه القرى والمناطق البعيدة مهما قل إنتاجها أو كثر فإنها تستطيع نقله وبيعه، وهو ما شجع وجذب المستثمرين إلى تلك المناطق، فنشأت فيها أعداد كثيرة من المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وبالتالي تحقق عدد أكبر من الوظائف، وتحقق دخل أكبر للسكان، ولم تحقق الصين بذلك بخفض نسبة الفقر، بل رفعت مستوى تنمية الاقتصاد الصيني بنسبة تفوق 6.5% كل عام. من أهم الأساسيات التي يجب على أي دولة أن تقوم بها لخفض نسبة الفقر هو وضع حد لما تعانيه مناطقها النائية من نقص شديد في وصول البنية التحتية من شبكات الصرف الصحي والماء والكهرباء والاتصالات، والحد من الهجرة الجماعية إلى المدن الرئيسية التي هي من الأساس لا تحتوي على بنية تحتية متكاملة، ولم تستعد وتخطط لاستقبال هذه الأعداد المتزايدة كل عام من الباحثين عن عمل، والذين بالطبع يبحثون عن مسكن، ومن ثم استخدام البنية التحتية التي ستكون تكلفتها أعلى على المدى الطويل من إيصالها لهم في قراهم وهجرهم البعيدة وأجدى لاقتصاد الدولة بمجملها.

ولو نظرنا للدول التي فشلت في مكافحة الفقر ونضرب كمثال دولة الهند التي تتشابه وتتقاطع في كثير من العوامل مع دولة الصين مثل تعداد السكان والمساحة الجغرافية والنهضة الصناعية، فإننا نجد أن أحد أهم أسباب فشل الهند في مكافحة الفقر بين أوساط شعبها هو عدم إيصالها للبنية التحتية للقرى والأرياف والغابات، مما أدى إلى هجرة جماعية للمدن الرئيسة مثل بومباي ودلهي التي امتلأت بأحياء فقيرة كاملة من الصفيح دون بنية تحتية مجاورة للأبراج السكنية والمكتبية الفاخرة، وامتلأت شوارعها بالباعة المتجولين، ولا تكاد تجد شارعا من شوارعها يخلو من المتسولين، وستجد هذه الظاهرة في أي دولة تهمل قراها وأريافها البعيدة، ولا تعي أهمية إيصال البنية التحتية المتكاملة لهم.

تجربة الصين في مكافحة الفقر باهتمامها ببناء البنية التحتية في الأرياف والقرى كأنها تقول حكمة جديدة: «إذا كنت تعتقد أن بناء البنية التحتية في القرى والأرياف البعيدة مكلفة فلتجرب تكلفة إهمالها».