أعادت تفجيرات ستوكهولم السبت الماضي بوصلة الاهتمام لأوروبا والتوتر المحموم فيها حول مستقبل القارة. من جهة القارة التي تحقق أعلى مستويات التواصل والانفتاح بين دولها كما يتمتع المواطن الأوروبي فيها بأعلى مستويات الحرية ربما على مدى التاريخ البشري. هذه القارة تواجه من جهة أخرى حالة خاصة. عدد كبير من المهاجرين لها غير متصالحين مع قيمها الأساسية ، أقصد قيم العلمانية والعقلانية والمساواة. عدم التصالح هذا يتفاوت بين الانعزال والانطواء على الذات وعدم الاندماج في المجتمع الكبير وبين تبني العنف والعمل المسلح كتعبير عن الصراع والتضاد.

قبل عشر دقائق من تفجيرات ستوكهولم السبت الماضي، بحسب الشرطة السويدية، وصلت رسالة بالإيميل لوكالة الأنباء السويدية باللغتين العربية والسويدية تعلن عن تبني العملية رداً على الرسوم المصنفة ضد الإسلام وعلى مشاركة القوات السويدية في أفغانستان. تعتبر هذه التفجيرات امتدادا لأحداث مشابهة كقتل المخرج الهولندي فان جوخ والتهديدات التي تطال بعض الكتاب والناشطين المنتقدين للأصوليات، بل والبعض يمدها إلى آخر الثمانينات من القرن الماضي والتهديدات التي طالت سلمان رشدي في بريطانيا بعد فتوى الخميني بإعدامه.

الصورة من منظور العين الأوروبية كالتالي: القانون الأوروبي يحمي حرية التفكير والتعبير ويعتقد أن لكل فرد الحق في قول وجهة نظره للعموم بشرط ألا يدعو للعنف. المسيحية واليهودية تعرضتا لنقد واسع على كافة المجالات الأكاديمية والفنية. المسيح مثلا تم تجسيده في عدد من الأفلام التي تتناقض مع الكنيسة وتصورات المؤمنين به. الفهم الأوروبي يعتقد أن هذا حق مكفول للأفراد. القضية نشأت مع عدد كبير من المسلمين في أوروبا باعتبار أنهم يعترضون على هذه المساحة من الحرية، وهذا حق يكفله لهم القانون الأوروبي، ولكن المشكلة تكمن حين يهددون بالقتل من يعترض أو يهزأ بمعتقداتهم. هنا نصل إلى أزمة حادة في المجتمع الأوروبي الذي يعتبر تاريخه عملية طويلة من أجل التحرر وحفظ حق التفكير والتعبير. في المقابل تنقلب المعادلة في العالم الإسلامي لتعتبر هذه المساحة من التحرر مجيزة للقتل والتفجير.

السؤال الأزمة هو كيف يمكن للثقافتين أن تعيشا في مكان واحد. هل تتنازل أوروبا عن قيمها الأساسية أو يتنازل المسلمون عن موقفهم أو أن الطرفين سيصلان مع الوقت لحل مرض للجميع؟ لا تزال هذه الأسئلة بدون إجابة خصوصا بعد التوترات المتتابعة بعد الحادي عشر من سبتمبر. الأكيد أن مسلمي أوروبا يفضلون العيش في أوروبا على العيش في أية دولة إسلامية، بل إن الكثير منهم لجأ لأوروبا هربا من الحروب والفقر والاغتيالات والبطالة. بل إن كثيرا منهم هرب لأوروبا بحثا عن الحرية. عدد كبير من قادة المعارضة الإسلامية ينعمون بحرية التعبير في أوروبا اليوم. الأكيد أيضا من الجهة المقابلة أن أوروبا تحتاج للعمالة من الدول الإسلامية ومن صالحها الاستثمار في عقول هذه المجتمعات. بل إن تاريخ بعض هذه الدول الاستعماري (فرنسا مع الجزائر مثلا) يوجب عليها تقديم العون لهذه المجتمعات ومساعدتها على النهوض.

من المهم القول أيضا إن مسلمي أوروبا هم شرائح متنوعة أيضا: متنورة ،محافظة، أصولية، إرهابية. المشكلة أن الصوت المتطرف هو الصوت الأكثر صدى والأكثر ضجيجا. بل ربما يمكن القول إنه ينظر له على أنه الصوت الأكثر تعبيرا عن التراث والتاريخ الإسلامي. الصوت المتطرف هو الصوت الذي حظي بالدعم والمساعدة خصوصا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وبمساعدة من الغرب نفسه. قام هذا التطرف بتصفية كل التصورات التنويرية داخل المجتمعات الإسلامية، حاربها ولا يزال يرعب متبنيها حتى اليوم. أي أن اللاعب الأساسي وصاحب الشعبية الكبرى اليوم في العالم الإسلامي ومسلمي أوروبا هو صوت متطرف ولديه أزمة حقيقية مع الآخر ومع العالم. أزمة لا تكمن في الاختلاف بل في الرفض والعداء ورغبة التغيير ولو بالقوة.

تظهر هذه الأزمة من خلال أحد أهم الشخصيات الإسلامية في أوروبا طارق رمضان حفيد حسن البنا. فهو من جهة يدعو لاندماج مسلمي أوروبا مع المجتمع الأوروبي ولكنه في ذات الوقت لا يقوم بخطوات تقدمية حقيقية في قلب التصورات الإسلامية. أقصى مساحة وصل لها رمضان هي القول "بتجميد بعض الحدود الجسدية" ولم يصل إلى موقف جذري فكري من جوهرها باعتبار أن الساحة الإسلامية لن تقبل وجوده كقائد إسلامي إذا وصل إلى هذه المساحة. طبعا أنا هنا أتحدث عن "كيف يبدو" رمضان في الساحة الأوروبية أكثر من "حقيقة" أفكاره وتوجهاته. أي كيف يعبر رمضان عن أزمة المجتمعات الإسلامية في قلب أوروبا.

مستقبل أوروبا لا يمكن تصوره اليوم دون الأخذ بعين الاعتبار المواطنين المسلمين هناك. وكل المستويات، الاقتصادية والفكرية والاجتماعية لها علاقة وثيقة بمستقبل هذه الجماعات. الأزمات الاقتصادية ترفع من حدة التوتر والاغتراب لدى هذه الجماعات التي تبحث عن مستقبل اقتصادي أفضل. اندماج الجماعات الإسلامية مع غيرها من الجماعات في أوروبا قضية اجتماعية معقدة، فلا يزال كثير من الأفراد لا يشعرون بدفء الانتماء إلا داخل جماعتهم الإثنية والدينية القريبة مما يقلل من فرص الاندماج والتواصل الحقيقي. لكن المشكلة الأساسية في قضية مسلمي أوروبا برأيي تكمن في أن ثقافتهم الإسلامية لم تستطع حتى الآن تصور عالم لا ديني، أي عالم محايد تجاه الدين، أي أنها لم تستطع حتى الآن تصور عالم علماني يخرج الدين فيه من كونه مشكّلا للفكر والحياة والمؤسسات العامة وحكم فيها إلى كونه خيارا شخصيا محدودا في المساحة الشخصية الخاصة. لا تزال ثقافتهم الإسلامية تعيش فضاءات الدولة الدينية فيما العالم كله قد تجاوز هذا التصور. لا ننسى هنا أن كثيرا من قادة الجماعات الإسلامية في أوروبا كانوا قبل عشر سنوات من الآن يبشرون بأوروبا إسلامية ولم يفعل الكثير منهم سوى أن سكتوا بعد الحادي عشر من سبتمبر ولا يزال الصوت المضاد هو الأضعف حتى الآن.