يقول ثيودور أدورنو: «الإنسان الذي لم يعد لديه وطن، تصبح الكتابة مكانا له ليعيش فيه». إنّ حالة «الكتابة» من أرقى الحالات الوجودية التي يمكن للإنسان أن يعبّر من خلالها عن ذاته، وعن أفكاره ومشاعره، وعن رأيه في الوجود والعالم من حوله.

وبما أن الصحيفة (الجريدة) من وسائل التعبير القديمة التي أتاحت للكاتب -عبر التاريخ- التعبير عن رأيه، طالما بقيت وسيلة للنشر تمنح الكاتب إطلالة على قرائه ومتابعيه في الطرف الآخر، الأمر الذي يحثه على الالتزام بالكتابة الصحفية لسنوات، محاولا أن يقدم رأيا ورسالة، دون أن يكون وصيا على فئة ما من المجتمع؛ وكون الكاتب إنسانا مثاليا خاليا من الأخطاء والزلات، وقائدا للرأي العام، ونصيرا للمقموعين والمظلومين والفقراء فكرة ولّت منذ منتصف القرن الماضي، ولم يعد لها مكان في عصرنا الحالي، ولا يمكن استعادتها اليوم بشكلها القديم في ظل نشوء وسائل الإعلام الإلكترونية الجديدة، التي أضحى معظم المستخدمين لها صناعاً لمحتواهم الإعلامي الخاص دون أن يرتبط بمؤسسات الصحافة والإعلام، الأمر الذي أتاح لهم أن يعبّروا عن أفكارهم وآرائهم بحرية كاملة.

لقد كرّست وسائل التواصل الاجتماعي فرصة التعبير عن الرأي، ورغم ما فيها من التجاوزات المشوبة بما يشبه الجنون، إلا أن أهم سمة فيها أنها كرّست «الرقيب الذاتي»، وأسقطت بشكل كامل «الرقيب الخارجي» في ظل بقاء الإطار القانوني في مرحلة ما بعد النشر، الذي يتحمّل كل فرد (مستخدم) من خلاله مسؤولية ما ينشره أمام الجهات القانونية، وسقوط الرقيب الخارجي-عبر هذه الوسائل- يعيدنا إلى التفكير بقضية الرقابة على (المكتوب) في مؤسسات الصحافة التقليدية التي ما زالت ملتزمة بوجود الرقيب الخارجي الذي تمثله الهيئة التحريرية.

عدم وجود الرقيب الخارجي في ظل مفهوم حرية الصحافة لا يعني الفوضى، بل يبعث على الالتزام بالخطوط المنطقية للثوابت الدينية والوطنية والاجتماعية، ويكرّس الطرح المتزن الذي يؤدي إلى حقائق ومعلومات ثابتة تفيد المجتمع والأفراد، وتنقل المعلومات بشكل صحيح، وعلى الرغم مما حققته حرية الصحافة في المملكة العربية السعودية من تقدم إلا أن معايير النشر واجتهادات الرقيب الخارجي لم يتركا لسلطة الرقيب الذاتي وسلطة القانون شيئا يذكر لممارسة دورهما المفترض، حيث لم يعد تكريس الرقابة على وسائل الإعلام كافة من قبل أشخاص قد تكون نظرة رقابية مبالغا فيها، وقد لا تمثل وجهة النظر الحكومية، بل تحرجها أحيانا في التصنيفات العالمية لحرية الصحافة.

ووعي المجتمع بحرية الرأي والتعبير وعدم الاعتداء على الآخرين أمران أكدت عليهما القوانين والمواثيق في المملكة، فأصبحت لدينا أنظمة واضحة، ومن يتعدّ الحدود المنطقية يحاسب وفق هذه الأنظمة، وهنا يبرز السؤال الملح: لماذا الرقابة على المكتوب؟

إن الكاتب المحترف ينظر إلى الكتابة على أنها «حالة خاصة جداً»، وبالتالي يكون رقيبه الذاتي واعيا، وذلك بناء على ما تمثله الكتابة من أهمية، فهي بالنسبة إليه أشبه بالتوأم المتناغم المتناسق في الحركات والسكنات، ولذلك حين يخشى الكاتب الجاد الرصين من استمراره في الابتذال فإنه يتوقف عن نشر ما يكتب، لكن قلق الكتابة يدفع الكاتب مجددا ليواصل رحلة الركض في عالم الكتابة، متذكرا أن حريته في طرح ما يعتمل في ذهنه من أفكار واستخدام رقابته على ذاته هما اللذان يمنحانه الاستمرارية في الكتابة ويبعدانه عن الابتذال.

وعلى مرّ التاريخ لا نجد أن المعاني المقموعة أو المبتسرة في الكتابة الصحفية قد أدت إلى الارتقاء بمجتمع، أو لفتت النظر إلى أمر لتتم معالجته، ذلك أن المعاني الكاملة هي التي تنبع من ذات كاتبها مهما كانت رمزية أو غير مفهومة بالنسبة إلى غيره، وهنا يظل الكاتب والمكتوب وجهان لعملة واحدة، بينما يظل الرقيب شيئا آخر، إذ لا يمكن أن تكون للعملة ثلاثة وجوه!