تنطوي دلالة «المدينة» على قيمة من زاوية التطور والرقي، بحيث نفهم من لفظ «المدينة» أفضليةً وعلواً في شكل المجتمع الإنساني الذي تمثِّله. وتنسحب هذه القيمة -من تلك الزاوية- على المفردات التي تتشارك معها في الجذر اللغوي «مَدَن»، نسبةً إليه، أو اشتقاقاً منه؛ مثل: المدني، والمدنية، والتمدين، والمَدْينة.

وهذا هو ما يصنع تراتبات لدلالة المدينة، في وجوه عديدة، ولكنها متداخلة: على محور العلاقة مع البدائي والمتخلف، وعلى محور العلاقة مع الحربي والتسلطي، وعلى محور العلاقة مع الضروري والاضطراري، وعلى محور العلاقة مع الجهل… إلخ.

فإذا كان معنى «مَدَن»: أقام، فيما يخبرنا «لسان العرب» فإن الإقامة على النحو الذي نسميه «المدينة» لابد أن

تأخذ شكلاً أكبر وأعقد وأرقى من أشكال الإقامة التي تجمع الناس في القرى والنجوع، وفي أشكال المجتمعات الريفية والبدوية.

ولهذا يسجِّل ابن منظور في اللسان، ما تضفيه التسمية بالمدينة على مكان الإقامة والسُّكنى لمجتمع محدَّد، من الشرف والفخامة، فيقول: «المدينة: اسم مدينة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خاصة غلبت عليها تفخيماً لها».

والرسول عليه السلام، هو من أطلق اسم المدينة، محوِّلاً إليها «يثرب» الاسم القديم الذي كانت تُسمَّى به. وهذا يعني أن المسألة ليست في الإقامة والسُّكنى، وإنما في إنشاء كيفية للإقامة والسكنى، أرقى وأفخم، يمكن أن نتأملها في صفات مجتمع متآلف على عقد اجتماعي «وثيقة المدينة»، وأحكام تنظيمية للأمن والعدل والأخلاق للمقيمين فيها تحت سلطة حكومة، تنشأ بموجبها علاقات اجتماعية، وتعليم وعمل… وصنائع مختلفة.

ويمكن في هذا المستوى من دلالة المدينة، أن نتأمل ما يورده «لسان العرب» أيضاً، من «قول آخر» بحسب وصفه، في جذر «المدينة» اللغوي، وأنه مَفْعِلة -وليس فَعِيلة- من «دِنْتُ» أي مُلِكتُ… ويقال للأمَة: مدينة، أي مملوكة.

فكأن النظام الذي تخضع له حياة سكان المدن، في كل مدينة تستحق هذا الاسم، هو المعنى الذي تُحيل عليه دلالة المدينة، وذلك في معارضة لحياة بلا نظام، أو أقل نظاماً تصف الإقامة والحياة خارج المدينة، وأدنى منها، لأنها حياة فوضى. وبالإضافة إلى تسمية الرسول للمدينة، فإن دلائل عديدة في نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة، يمكن استنطاقها في وجهة تعزيز قيمة المدينة ونشرها في الحياة الإسلامية، في مقابل ما تفيض به تلك النصوص من أوصاف الجفاء والغلظة والجهل والعنجهية والتعصب وحياة الفوضى واللانظام، التي تسبغها على الحياة الرعوية والقبلية، أي الحياة غير المدنية.

لدى ابن خلدون، تأتي المدينة قرينا للتعدد الذي يأخذ معناه، من وجهته، في قبالة العصبية، أي رابطة الاجتماع ادِّعاءً لأحادية التكوين وخلوصه، وأكثر ما تنجلي تلك العصبية لديه في ادعاء صفاء النسب وصراحته؛ فالصريح من النسب -فيما يقول- «إنما يوجد للمتوحشين في القَفْر».

ولهذا لاحظ ابن خلدون تكوين المدينة وقيمتها من زاوية الاختلاف المتآلف بين سكانها، وهي زاوية للرؤية من وجهة المغايَرة لحياة الأرياف والبوادي، وأيضا من وجهة تراتُبٍ تُعْلي، بسبب تلك الصفة وما ينشأ عنها، حياة المدينة على غيرها. يقول: «تنزع العصبية بصاحبها إلى سكنى البدو والتجافي عن المصر (=المدينة) الذي يذهب بالبسالة ويصيِّره عيالا على غيره». وذهاب المدينة بالبسالة وتصيير ساكنها عيالا على غيره، ليست دلالة انتقاص، إذا فهمنا ما تنطوي عليه من معنى الاعتراف بحقوق الآخر، وتحويل الفرد إلى شخص، والتقيد بالنظام، في مقابل حياة بلا خطام ولا زمام.

وهذا وجه لتجلي الحرية والإرادة في المدينة؛ فالنسبة إلى المدينة في المصطلح المتداول حديثاً: «المجتمع المدني»، وهو مؤسسات ينشئها الناس، تعني أنه لا يكون مدنيا إلا لأنه إرادي، وإن كانت تعني في الوقت نفسه أنه منضبط بالنظام، وذلك لأن مفهومه قائم على خلاف المؤسسات التقليدية في البوادي والقرى، مثل القبيلة والطائفة، التي لا اختيار لانتماء الفرد إليها، وإنما ينتمي إليها بحكم ولادته.

ويقودنا هذا إلى دلالة المدينة من حيث صلتها بالزمان، أي بالتغير والتطور المستمر، فالمجتمعات البدائية، هي مثل مجتمعات النمل، لا تتغير صورة حياتها. ومن هذا المنظور كانت مقارنة أبي حيان التوحيدي، في كتابه «الهوامل والشوامل» بين عيشة أهل القرى، القليلة العدد، وعيشة سكان الخِيَم، وبيوت الشَّعر، وظلال القصب «الذين لا يكملون لتحسين معايشهم» وبين عيشة أهل المدينة، في جودة العيش وحسن الحال فيه.

و«المعاونة» لدى التوحيدي، هي أساس المَدَنية، في قوله: «وبهذه المعاونة تتم المدينة، ويصلح معاش الإنسان الذي هو مدني بالطبع». ولا تكون المعاونة بين المرء ونفسه، بل بينه وبين غيره، وهذه المعاونة هي مدلول التكوين المتجدد الذي يحدث في المدينة لشبكة العلاقات الاجتماعية التي تصنع التغير والتطور.

صفات المدينة تلك، هي ما يجعلها في الفكر الفلسفي والاجتماعي في تراثنا، دلالة كمال في الرتبة التي تمثلها في الوجود الاجتماعي. يقول أبو نصر الفارابي في كتابه «السياسة المدنية»: «والإنسان من الأنواع التي لا يمكن أن يتم لها الضروري من أمورها ولا تنال الأفضل من أحوالها إلا باجتماع جماعات منها كثيرة في مسكن واحد... فالمدينة هي أول مراتب الكمالات، وأما الاجتماعات في القرى والمحال والسكك والبيوت فهي الاجتماعات الناقصة».

وإذا كانت المدينة، لدى الفارابي، مركز التراتب والتفاضل، الذي أنشأه لها بوضعها في علاقة تقابُل ثنائي بين مجتمعات «الكمال» ومجتمعات «النقص»، فإنها تأخذ عند ابن خلدون مركز التراتب والتفاضل، حين يضعها في علاقة تقابل ثنائي بين «الكمالي» و«الضروري» قائلاً:

«ما لم يستوف العمران الحضري وتتمدَّن المدينة فإن همَّ الناس في الضروري من المعاش، وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها. فإذا تمدَّنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضروري وزادت عليه، صُرِف الزائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش».

والحديث عن التراتب بين الكمالي والضروري، هو حديث عن الحرية، والثروة، والترفيه، والدعة، وتعدد أشكال العمل، والعلم والفن، والصحة… إلخ. فهذه كلها وما إليها، تندرج في خانة الكمالي وليس الضروري، فتغدو من مقتضيات المدينة ومتطلباتها، ويصنع كل منها أفضليته وتمركزه في مقابل ضده ونقيضه، بذلك الحسبان للكمالي الذي يؤول إلى إعلاء المدينة وتعزيز قيمتها ودلالتها على الرقي والتقدم. إن بناء دلالة المدينة، فيما رأينا أعلاه، يقوم على علاقة تراتب هرمي، بين أعلى وأدنى، وفاضل ومفضول، بحيث تحتل المدينة مركز التراتب، فتعلو على غيرها من أشكال الاجتماع البشري، وتفضُل سواها.

وقد نقول إن في هذا البناء الدلالي -كما هو الحال في كل بناء دلالي قائم على التقابل الثنائي- ملمحاً إيديولوجياً لا تخطئه العين؛ أعني قصداً إلى الترويج للمدينة وإشاعة أفضليتها، وفكراً رغبوياً تجاه ذلك، يعمد إلى التمركز من موقع محدَّد للرؤية، بما يؤدي إلى حجب مواقع أخرى للرؤية والتعمية عليها، فمن الممكن دائما أن نجد تداخلاً بين تلك التقابلات الثنائية.

ولكننا حين نتأمل فيما اتُّخِذ علة لأفضلية المدينة وكمالها، نجده بالضد من ذلك الفكر القهري التراتبي؛ فالتعدد والتعاون والحرية والكمالي… إلخ فضاءات للدلالة على تعدُّد المركز لا أحاديته، وعلى وجودٍ ليس جاهزاً ومنتهياً، بل هو في حاجة مستمرة إلى الإنجاز الذي يبقى أبداً دون اكتمال.