تَوَالي الإصلاحات في المملكة التي وصلت إلى ذروتها بالإطاحة بعتاولة الفساد الكبار، من ذوي النفوذ والمكانة، يعيدنا إلى السؤال الفلسفي بشأن التاريخ: كيف يحدث التاريخ؟! هل يتقدم بطبيعته إلى الأمام؟ أم يحتاج إلى فاعل إنساني معيَّن يصنع تقدمه؟!

لا حاجة إلى استعراض تلك المقولات والطروحات التي تُحمِّل التاريخ، في تجريده وميتافيزيقيته، مسؤولية الحركة التاريخية التي تؤسِّس الدول وتُسقطها، وتتقدَّم عبر الصراع بين المكونات الاجتماعية، الذي ينتهي، بحسب تلك الوجهة التقدمية، إلى الخير دائماً، ويستوجب من الناس التفاؤل حتى حين تستحكم حلقاته عليهم ويشتد ضيقه.

لكن ما هو في حاجة إلى التأمل هو غموض تلك اللحظة التي ينفرج فيها الضيق: لماذا لم تتقدَّم عن موعدها الذي حدثت فيه؟! أو لماذا لم تتأخر؟! وهل كان لها أن تحدث من دون إرادة إنسانية، ومن دون شجاعة، ومن دون ابتدار للفعل؟!

تُنكِر تلك المقولات التاريخية الشمولية الإرادة الإنسانية، وتمحوها لصالح «قوى التاريخ»، التي تصنع وفق آليات معينة تطور المجتمعات، وانتقال أوضاعها، وترقِّيها. ولا يعدمُون –بعدئذ- الحيل والتفسيرات التي يؤوِّلون بها حالات الانحدار بعد الصعود، والهزيمة بعد الانتصار، والتراجع بعد التقدم؛ فمسار التاريخ -من وجهتهم- لولبي وليس مستقيما، والتاريخ – فيما يعِظُون - ماكر ومخادع.

وأظن أن أسوأ الظواهر العالقة بهذه الوجهة الفكرية والفلسفية، انحيازها ضد الحرية، وتمجيدها للدكتاتوريات التي تتغوَّل وتستبد باسم إيديولوجيا شمولية، وتجفيف منابع البهجة والأشواق الإنسانية، وتفريغ الإنسان من مسؤوليته الأخلاقية، ومن فرديته، ومن إرادته، واعتقاله في لحظة انتظار فارغة لفعل التاريخ الذي لا يجيء.

ليس بوسع أحد أن ينكر أثر الواقع في تشكيل الوعي الإنساني، ولكن ليس لأحد كذلك أن يسلب الإنسان فاعليته، فيحيله إلى أثر للواقع ومفعول له وبه. فالواقع يفعل ولكن الإنسان يفعل –كذلك- ويمكن له، باستقلال، أن يقود هذا الواقع ويصلحه ويطوِّره، بقدر ما يمكن له –كذلك- أن يُجمِّده، ويوقف حركته، أو يحيله إلى دمار...

ما الذي تغيَّر في الواقع السعودي، بوصفه واقعاً تاريخيا، في أوضاعه الاقتصادية، وأبنيته الاجتماعية، وأفق وعيه؟! هل كان يمكن لأحد أن يتوقع، وفق المعطيات التاريخية الشاخصة إلى الآن، تغييراً حتمياً يطال أقوى أصحاب النفوذ فيه؟! ويُجْهز على المقولات الجامدة التي استبدَّت بوعيه وعطَّلت حضوره العالمي وانطلاقته نحو المستقبل؟!

لقد ظل تاريخ مجتمعنا السعودي يتوالى، دوائر تَعقُب الواحدة الأخرى؛ فيتسع الإنفاق أو ينحسر بحسب ارتفاع أسعار البترول أو انخفاضها، وتتقدم التنمية أو تتباطأ تبعاً لذلك. وتكاد تلك الدوائر التاريخية تتشابه في جوهرها ويكرر بعضها بعضاً. ولذلك لم يكن لأحد أن يتوقع خروجاً عن هذا النسق التاريخي، إلى دائرة تاريخية مختلفة عن سابقاتها، حتى بتحول السلطة الملكية من أبناء الملك المؤسِّس إلى أحفاده.

كان تاريخ المجتمع السعودي يتراكم ويتكرر، ولا يقفز أو يتحول. والآن تحدُث النقطة الفاصلة، وتحدُث قفزة التاريخ وتحوله. وسواء اعتقدنا بقوانين التاريخ أو بقوانين العمران البشري، بحسب المصطلح الخلدوني، أو لم نعتقد بها، ورأينا أن من الصعوبة أن نعتقل التاريخ في قانون واحد، ونفرض عليه حتمية صارمة، فإن علينا في الحالين ألا نهمل دور الذات الإنسانية في إحداث التطور الاجتماعي.

إنها، في الوضع الذي نخصه بحديثنا هنا، ذات أحسنت معرفة الواقع، وتعمَّقت في سيرورته، واستوعبت تناقضاته، ولكنها -إلى ذلك- أفادت من هذه المعرفة في امتلاك المبادأة، والسيطرة على قانون التاريخ، وتحولت من دور المعلول إلى دور العلة. فكانت اللحظة، هي لحظة الوعي والنضج والإرادة، اللحظة التي تحققت في نموذج إنساني، يوجِّه مسيرة التاريخ ويضع بصمته عليه.

وأعتقد أن صِدْق هذا التوصيف، يتضح في مقدار المفاجأة والدهشة والابتهاج الذي يعم الشارع السعودي، بمختلف أطيافه، تجاه التغيير والإصلاح الحالي الذي ابتدرته القيادة السعودية من أعلى مستوياتها، ويلمسه المرء في ذاته وأهله وأصدقائه وزملائه، وفي البعيدين عنه، وفي وسائل التواصل المختلفة. وهو التجاوب الذي عبَّر عن المفاجأة تجاهه والتقويم الإيجابي له، المراقبون والمحللون، الذين لم يعتادوا قفزة في التاريخ السعودي، على هذا النحو الذي يأذن بزمن جديد، متخفِّف من استغلال المتنفذين وفسادهم، ورغبتهم في الجمود الذي يحمي مكاسبهم.

كتب الأديب الروائي محمد حسن علوان تغريدة، ليلة الإعلان عن توقيف كبار المتنفذين بشبهة الفساد المالي، جمع فيها الخطوات الإصلاحية التي تصنع تاريخا جديدا في بلادنا، من زاوية النظر إلى لا معقوليتها، وفق ما ترسَّخ في المجتمع تجاهها من استحالة، فقال:

«خمس خرافات اجتماعية تم نسفُها مؤخراً في السعودية:

1. لن نعيش بلا نفط

2. الصحوة

3. لن تقودي

4. رؤوس الفساد لا تُمسّ

5. الشباب بلا حكمة».

وقد حظيت التغريدة برواج تستحقه؛ فالتغلب على النقاط الخمس التي اشتملت عليها هو إنجاز يتحقق في معظمها الآن، ويتضافر التغلب على كل منها في سبيل اكتمال تحقُّقه فيها جميعا. والصفة الأهم في نَسْفها والغلبة عليها هي الانحياز ضد واقع تاريخي ترسَّخ على مدى عقود، ونشأت في ظله حيازات مادية ومعنوية ووظيفية لأفراد وفئات أصبح لهم نفوذ وتأثير متناسب مع حيازاتهم ومكتسباتهم وعلاقاتهم. والنتيجة هي انغلاق أفق الواقع السعودي، واستدارة التاريخ، حمايةً لمصالح أولئك، ومقاومةً لأي إصلاح أو تصحيح يهزمهم ليفتح الطريق للتقدم والتطوير، ولاندفاع قاطرة الزمن…

ليست المشكلة في أشخاص الفاسدين المتنفذين فحسب، ولا في رغبتهم في بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وإنما في الثقافة التي تبادلت مع الأفق المنغلق والفاسد الإنتاج، وصنعت خطاباً تسلطياً يزعم المحافظة، ويدعي المنافحة عن هوية متخيَّلة، ويقصي المرأة، ويدني من قيمة الشباب، ويهزُّ الثقة فيهم، ويتيح المرونة في القوانين والغموض في التشريعات. والخاسر في ذلك هو الوطن، وفي القلب منه المواطن البسيط الذي تسحقه ضرورات الحياة، وتضيق به سبل الوظائف، وتنأى عنه وعود الإسكان، وتهدُّه فواتير الخدمات… ولذلك فإن القضاء على الفساد، هو بالضرورة، تأسيس لوعي جديد وقيم وتشريعات جديدة، إنه تأسيس جديد للدولة.

إن الإنسان بطبعه لا يكف عن الأمل في غد أفضل، فهو لا يفقد الأمل إلا حين يفقد الرغبة في الحياة. ولكن التاريخ لا يقدم الأمل مجاناً بسخاء عاطفي وباشتهاء خيالي، بل يقدمه عقلانياً، كي ينهض الإنسان بدوره ويتحمَّل مسؤوليته تجاه تحقيقه وتحيينه.