من أطرف الشخصيات الأدبية في عالم الاحتيال، شخصية أبي الفتح الإسكندري بطل مقامات بديع الزمان الهمذاني، وهذه الشخصية الطريفة كانت الانطلاقة الحقيقية لما عرف بعد ذلك بأدب الشطار أو الأدب البيكارسي.

تتمحور شخصية أبي الفتح حول شعر الكدية وأدبها عن طريق اتخاذ مظاهر الوعاظ والمفتين وأبناء السبيل الذين يتفننون في أساليب الاحتيال للحصول على المال، فكان أبو الفتح الإسكندري يستغل قدرته الفذة على التأثير على مشاعر وعواطف الناس، بفصاحته وبلاغته وقوة بيانه التي كانت أداته الطيعة في الاحتيال على الناس.

وفي عالم المال والاستثمار والتجارة في عصر الرأسمالية العالمية في القرن العشرين، ظهرت شخصية المهاجر الإيطالي تشارلز بونزي، أكبر المحتالين الماليين في التاريخ الأميركي، والذي ألقي القبض عليه عام 1920 بسبب الاحتيال على الآلاف من الأشخاص ليجمع 15 مليون دولار على مدى ثمانية أشهر فقط.

ويطلق مصطلح مخطط بونزي (Ponzi Scheme) على شكل من أشكال النصب والاحتيال الاستثمار الوهمي التي يتم فيها دفع عوائد المستثمرين القدامى من خلال أموال المستثمرين الجدد، والمستثمرون القدامى الذين حصلوا على أرباح حقيقية في فترة قصيرة، كانوا هم المسوق الفعلي للمحتال بونزي، حيث قاموا وبحسن نية بإخبار أصدقائهم وجيرانهم عن الربح السريع الذي حققوه في وقت قياسي، وهم أنفسهم قد وقعوا ضحية الكسب السريع، فأعادوا أموالهم للاستثمار في شركة تشارلز بونزي المحتال.

وفي مرحلة معينة، حين تتراكم الأموال الضخمة بين يدي المحتال بونزي، يهرب بكل الأموال، تاركا وراءه الوهم والسراب لهؤلاء المستثمرين الحالمين بالثراء السريع، حيث وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها على بساط الفقر، وقد وضعوا كل مدخراتهم بين يدي محتال لا يملك أي استثمار.

أما في مجال العلم والكيمياء فإن الاحتيال كان له طرائق وأساليب مختلفة، فالكل قد سمع عن حجر الفلاسفة، الحجر السحري القادر على تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، والذي استغله كثير من الدجالين والمشعوذين لسرقة أموال الناس، وفكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب لم تفقد بريقها مع مرور الزمن، بل لا يزال لها ضحايا، ففي العصر الحديث عصر العلم والمعرفة، استمرت فكرة الثراء عن طريق تحويل المعادن الرخيصة، واستثمرها كثير من المحتالين لاستغلال الناس.

ومن مجال الكيمياء وحجر الفلاسفة إلى عالم اللغويات واللسانيات، حيث الثورات التي تحيا وتموت في لمح البصر، فحياة الثورات اللسانية تشبه حياة الفراشات، فبين ثورة وثورة هناك ثورة أخرى، فلا تكاد الثورة البنيوية تشرق شمسها حتى تحتجب سريعا بحجاب ثورة ما بعد البنيوية، ولا يكاد المُنظر اللغوي يطرح نظريته في عالم اللغة حتى تموت نظريته وهو لا يزال على قيد الحياة، ومن رفات نظريته تتخلق نظرية جديدة.

عالم اللسانيات عالم خاص، عالم لا يتوقف عن التجديد، فهو كعالم الموضة والأزياء، ولكل موضة لسانية زبائن وتجار، هناك من يستغله لتحقيق الشهرة والمكانة وهناك من يعتنقه لمواكبة الموضة.

في خضم هذا العالم المتسارع من الثورات، ودورة حياة النظريات السريعة ما بين الموت والحياة، بزغت الثورة اللسانية التوليدية عام 1957، وهذا المولود الخديج الذي ولد وهو يحمل بذور فنائه، تم تسويقه بصورة سريعة وصار جزءا لا يتجزأ من عالم اللسانيات واللغويات، بل إنه أضحى فتحا علميا يصنف ضمن المعارف العلمية المهمة.

دخلت الثورة التوليدية العالم العربي، وأصبح لها أنصار ومريدون، وتزايد عدد العرب المنظمين لهذه الثورة في سبيل مواكبة الموضة الجديدة، ومع أنهم لا يزالون قلة قليلة، ولكنهم صنعوا لأنفسهم (لوبيا) مؤثرا في الجامعات العربية، وحمل رموز اللسانيات التوليدية العرب على عاتقهم مسؤولية تسويق الفرضيات والنظريات التوليدية، وأوهموا طلابهم بأن هناك -بالفعل- مشروعا لغويا قادرا على معالجة اللغة العربية ودراستها دراسة علمية حديثة.

ومع هجرة زعيم اللسانيات التوليدية وتوقفه عن مشاريعه اللسانية، وتحوله لعالم السياسة لم يتوقف التوليديون العرب عن طرح المبررات لهذه الهجرة المفاجئة للزعيم وأتباعه في الدولة المصدرة لهذا المشروع، فوجدوا أنفسهم بين شقي الرحى، ما بين أستاذ ترك مريديه عند منتصف الطريق وسؤال يلاحقهم: لماذا رحل الزعيم؟