للألقاب عند اقترانها بأسماء الأشخاص وظائف دلالية في المجتمعات، فلقب الشخص يقدِّم دلالة تعريفية تزيد على تعريفه باسمه مجردا، وقد تكون دلالة مدحية وتشريفية وإنمائية إلى فئة مخصوصة بمقام امتياز اجتماعي أو معرفي أو ثقافي أو عملي، أو ذات دلالة على موهبة ونبوغ ما. وهذا هو مدار أهمية اللقب لصاحبه.

أما وظيفة الألقاب من وجهة المجتمع المحيط بأصحاب الألقاب، فتبدو حين يتداول بعض أفراده الإشارة إلى الشخص بلقبه، أو حين يبتدرون إطلاق اللقب عليه في الحديث إليه أو عنه. وذلك لمزيد من التعريف به، أو التعبير عن الاحترام له وتوقيره والاهتمام به، أو النفاق له وتملقه. أو تعظيمه في مقام التعصب الاجتماعي والمذهبي والفكري والرياضي والفني وما إليه. وقد يجتمع الاحترام والتوقير في ذكر اللقب مع الدلالة به لدواع عملية، على تخصص صاحبه العملي والعلمي، أو على مكانته الاجتماعية.

وليست الألقاب كلها مدحية أو حتى تعريفية محايدة، فهناك ألقاب قدحية وانتقاصية تجمع إلى تعريف من يُنبَز بها ذمّه وتحقيره أو التحذير منه.

وفي الأحوال كلها فإن التأمل في تداول الألقاب وإطلاقها يكشف عن دلالة على الثقافة الاجتماعية على وجه العموم، أو على ثقافة فئة مخصوصة، أو على أفراد، يكشف عن دلالة على وقائع اجتماعية وعلى تصورات وقيم وأخلاقيات: ثقافة تراتبية وطبقية ورسمية، ثقافة عالمة أو شعبوية، ثقافة تحترم الآخر أو لا تبالي به أو تحتقره، ثقافة مرتهنة لتسلط فئوي أو عامرة بالتعدد… إلخ.

ما الذي يدعو إلى شيوع لقب اجتماعي أو ثقافي أو ديني، دون غيره من الألقاب في مجتمع من المجتمعات، أو لدى فئة اجتماعية أو مذهب، وفي حقبة من الحقب؟! ولماذا يتنافس الناس في الاتصاف بهذا اللقب أو ذاك والتسمِّي به؟! وما دلالة الإقبال على إطلاقه والوصف به؟!

حين نتأمل في ألقاب من قبيل: حجة الإسلام، شيخ الإسلام، المجتهد، آية الله العظمى، الشيخ، الأستاذ، أمير الشعراء، المفكر الإسلامي، المفكر الكبير، الدكتور، الإمام، الرئيس، الباشا، البيه، الأفندي… إلخ، فسنرى في كل لقب مثالا على دلالة تجاوزه مفردا إلى سياق اجتماعي وثقافي وتاريخي، وإلى وجهة معينة في الدلالة باللقب، على نـحو تتعدّى دلالته صاحب اللقب إلى المتداولين له بدلالة أوسع من المتداوِل بوصفه فردا، وأوسع كذلك من المُلقَّب به.

ولهذا كانت ألقاب الأشخاص دلالة سلطوية في المجتمعات، بأكثر من معنى، أي دلالة طلب للغلبة، وضبط وسيادة. ويمثل تداولها في بعض مستويات الثقافة الاجتماعية مشكلات قيمية، من منظور التمييز الفئوي والمركَزة لصفة اللقب، والصراع الأيديولوجي.

لكن مشكلة بعض الألقاب تغدو، من وجه أو آخر، مشكلة تعريف ودلالة في الخطاب الاجتماعي حين تفقد أسباب اختصاصها بأصحابها، المعترف لهم اجتماعيا بامتلاكها والاتصاف بها والنسبة إليها.

فإذا تلقّب شخص بلقب ليس له دلالة عليه، أو أُطلق هذا اللقب عليه دونما امتلاك لاستحقاقه المرسَّم من قبل السلطة الاجتماعية، فإنه يُسهم في إفساد دلالة ذلك اللقب على أصحابه الذين تواطأ المجتمع على الدلالة عليهم به. وهي -عندئذ- جناية مزدوجة من جهة تزوير التعريف بنفسه، ومن جهة انتهاك الاصطلاح الاجتماعي الذي يَشْرُط ذلك اللقب ويقيِّده بمن يملك شَرْطه.

ومن المؤكد أن ألقابا عديدة تتعرض للادعاء من قبل من لا دلالة في أشخاصهم أو وظائفهم أو اختصاصهم عليها، ومن هذه الألقاب لقب «الشيخ» مثلا، الذي يبدو أنه، في المجتمع السعودي أكثر الألقاب ادعاء للاتصاف به، أو إطلاقا له ووصفا به.

كان إطلاق لقب «الشيخ» موضوع تحذير وزارة الثقافة والإعلام، مرات، في سياقات مختلفة:

أحدها، مثلا، من استغلال مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل لإطلاق لقب شيخ قبيلة، أو شيخ، لغير المسجلين لدى الدولة من قبل ملاك الإبل المشاركين أو زوارهم عبر المنابر الخطابية أو القنوات الشعبية.

والثانية، في توجيه إلى المطابع بعدم تدوين لقب «الشيخ» في بطاقات دعوات الزواج، ما لم يكن الداعي من شيوخ القبائل المعتمَدين من وزارة الداخلية، أو من مشايخ الدين، بأن يثبت صاحب الدعوة ذلك، بوثيقة رسمية، أو بإحضار موافقة من إدارة المطبوعات بالوزارة.

ويضاف ذلك إلى تعميمات قديمة من قبل الوزارة تمنع إطلاق لقب «الشيخ» على من لا يستحقه، في الأخبار، أو الإعلانات.

وسياقات تحذير الوزارة من استخدام لقب «الشيخ» تدل على شعبوية الاستخدام له، بما يفسد خصوصيته من حيث هو منصب قبلي أو ديني، ويجعله نهبا للمدعين. وسياق الحفلات الخاصة، بما فيها الأعراس، أدل على عمومية لقب «الشيخ»، فهو لقب من لا يجد لقبا، بل هو لقب يَعْدل إليه أصحاب الألقاب الأخرى، فيتخلون عن ألقابهم مفضِّلين عليها اتصافهم به، أو يضيفونه إلى ألقابهم: «الشيخ الدكتور» و«الشيخ المهندس» و«رجل الأعمال الشيخ»… الخ.

التنافس على الوجاهة الاجتماعية، والمعنى السلطوي فيها، هو ما جعل بعض الألقاب التي تدل عليها موضوع بيع وشراء بالمال، في بعض المجتمعات، ومن ذلك لقب «الباشا» في الدولة العثمانية. وحين تمنع بعض السلطات استخدام ألقاب بهذه الدلالة، كما حدث في مصر بعد قيام ثورة يوليو 1952، فإنها تصنع ثقافة جديدة في التسمية والمخاطبات، لها انعكاساتها على علاقات المجتمع، وتصوراته وقيمه.

لكن المجتمعات -أحيانا- تنتقم أو تعارض، ما تحمله بعض الألقاب من تسلط وتعال، وذلك باستخدام اللغة في تخاطباتها استخداما يُعمِّم تلك الألقاب، ويفض دلالتها المغلقة ويُعدِّدها. هكذا أصبحت الوجاهة التي آل إليها معنى الشيخ بلا أي معنى لإثباتها والبرهنة عليها، ولا أحد يتقبل أن يوصف بنقصان الوجاهة والمكانة، فكل صفة تدل على نقصان الوجاهة كالفقر أو الجهل أو الموقع الهامشي في المجتمع، تجد في اتساع دلالة الشيخ ما يغطيها، أو ما يعارض نقصانها. وعندئذ يغدو كل أحد، أو يمكن أن يغدو، شيخا وابن شيخ وأبا لشيوخ… الخ.

وقد نقول إن اتساع دلالة «الشيخ» كما شيوع لقبه في المجتمع، جاءا من امتلاكه من قبل المؤسسة الدينية، وشموله كل من يتصف بالدين أو يؤدي وظيفة دينية. فالشيخ في استخدام المجتمع للقبه من هذه الوجهة الدينية، هو: المفتي، والقاضي، ومدرس العلوم الدينية، والداعية، والمأذون، وإمام المسجد، والمؤذن، والراقي أو الطبيب الشعبي، وخريجو كليات الشريعة وأصول الدين، والشخص الذي تظهر عليه علامات التدين المخصوصة من الوجهة المؤسسية… الخ، وقد نقول إنه جاء من ذلك ومن الثراء المادي، وهو شائع لدى طبقة عريضة في المجتمع السعودي.

لكن المهم من ذلك هو الدلالة المختزنة في لقب «الشيخ» على السلطة: الدلالة التي يمكن استخدامها في تحليل الثقافة الاجتماعية في المملكة، من زاوية مراكز القوة والسلطة التي تنعكس على تخاطباتها وعلاقاتها. فلا غنى لأي فكر تنموي ونهضوي عن الوعي بتحليل الثقافة والحسبان لها. وأظن أنه لا يكفي في محاصرة شيوع استخدام لقب الشيخ وتقليله منع الاستخدام له من قبل غير المخصَّصين بدلالته على وظيفتهم، بل لا بد أيضا من تفكيك دلالة السلطة فيه وحصرها وتحديدها.