(الخلاف شر) كلمتان صادقتان، قالهما الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وأما المناسبة والسياق الذي قال لأجله هاتين الكلمتين فهو أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه صلى بالناس في منى أربع ركعات، وقد ذكر ابن حجر: كلام العلماء في تفسير اجتهاده هذا، وكان ابن مسعود يرى القصر ركعتين لكونه صلى مع النبي عليه الصلاة والسلام بمنى ركعتين، ومع أبي بكر رضي الله عنه ركعتين، ومع عمر رضي الله عنه ركعتين، وكان يقول: ليت حظِّي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان (كما روى ذلك البخاري ومسلم)، ومع ذلك صلى في منى خلف عثمان أربعاً، فقيل له في ذلك: كيف تصلي أربعا وأنت ترى القصر ركعتين، فقال كلمته الشافية الكافية (كما في سنن أبي داود): الخلاف شر.
وهذا دليل على عمق فهم الصحابة رضي الله عنهم، فالخلاف والنزاع اللذان يسببان تفرق الكلمة والإثارة والشر لا خير فيهما، ولهذا تُلتَزم أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين بالتزام أدناهما، ولا ريب أن مصلحة الصلاة مع إمام المسلمين، وجمع الكلمة عليه، أعظم مصلحة من فعل ما يراه ابن مسعود هو الصواب.
ومفسدة التشويش على إمام المسلمين، وعدم الصلاة معه، أعظم مفسدة من ترك ما يراه ابن مسعود صواباً، هذا الفقه السلفي الموافق للنصوص الشرعية، يحتاجه كثير من المفكرين وحملة الأقلام، وأهل العلم والإعلام.
وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: (ويسوغ أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة، خوفاً من التنفير عما يصلح، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وخشي تنفيرهم بذلك، ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم، وقال ابن مسعود، لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه، فقيل له في ذلك، فقال: «الخلاف شر»، فالنزاع والخلاف سببان للفشل، وذهاب الريح، وفرَح الأعداء، وتسلطهم، برهان ذلك قوله تعالى (ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم)، أي: ولا تختلفوا فتتفرقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا، وتذهب ريحكم، يقال للرجل إذا أقبل ما يحبه ويُسَرّ به، الريح مقبلةٌ عليه، وإذا ذهبت قوته، ودخل عليه الوهن والضعف، يقال: ذهبت ريحه.
صحيح أن الخلاف مقدر كونا، لكنه غير مرغوب فيه شرعا، لأنه شرٌ وبلاء، قال المُزني عند قوله تعالى (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات): ذمَّ الله الاختلاف، وأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فلو كان الاختلاف من دينِهِ ما ذمه، وقال تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك)، فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف الذي يضر.
وما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «اختلاف أمتي رحمة»، فهذا لم يقله رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال الألباني-رحمه الله -عنه: «لا أصل له، بل هو مناقض لقوله تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد)، قال ابن حزم رحمه الله (لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطاً، وهذا ما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط، وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب، من توليد أهل الفسق).
وأما الخلافات المعتبرة التي لا تؤدي إلى افتراق، فهي سائغة، لأن فيها فتحا لباب الاجتهاد الذي فيه سعة على المسلمين، فيكون رحمة لهم من هذه الجهة، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم، من خفاء الحكم، ولهذا صنف رجل كتاباً سمّاه (كتاب الاختلاف)؛ فقال أحمد: (سمِّه كتاب السعة)، وإن الحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه؛ لما في ظهوره من الشدة عليهم)، فهو إذًا رحمة من جهة الاجتهاد والتوسعة.
واليوم كثرت الأهواء المضلة عند بعض الناس، وأُعجب كل ذي رأي برأيه، فصار بعض المعجبين بأنفسهم - هداهم الله - يُشاغبون بما لا يسوغ الخلاف فيه، ولا ينظرون في عاقبة أمرهم وخلافاتهم، وما يحدثونه من صخب وشر وفتن، وقد يكونون جاهلين بحقائق ما يخالفون فيه، بينما كما تقدم ها هو الفقيه ابن مسعود رضي الله عنه، وهو الذي مُلء علما وفهما، لم يُشاغِب في عرض رأيه الذي يراه صوابا، وإنما احتفظ به لنفسه، وتابع الإمام، وقال قولته المشهورة: (الخلاف شر)، ولهذا كان من منصوص اعتقاد أهل السنة والجماعة قولهم: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً)، ولا تحصل الجماعة إلا بالائتلاف، ولا تحصل الفرقة والفشل وذهاب الريح وتسلط الأعداء إلا بالتنازع والخلاف، وصدق الله العظيم (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين).