الحركة الثقافية الفكرية والإبداعية في المملكة، حركة مبهجة، في هذه الآونة، بمظاهرها المختلفة، قياسا على الماضي، وقياسا على حركة الثقافة في أنحاء العالم العربي.

فالكتب التي تصدُر سنويا، في عددها وتنوع حقول اهتمامها، مؤشر على تقدم خطى هذه الحركة، وعلى وعيها، خصوصاً وجهتها النقدية تجاه الذات، واتساع فضاء انفتاحها على الآخر، وبروز الأسئلة المنهجية والنظرية التي تدلل على الرغبة في مستوى نوعي ومتجاوز من الطرح غير النمطي أو التقليدي.

ولا ينفصل عن ذلك، عدد الإصدارات الإبداعية في الشعر والرواية والقصة القصيرة، فهي تدلل إجمالا، على غناها بالمواهب، وعلى تمثيل عدد غير قليل منها مستويات ناضجة ومتقدمة.

ويمكن أن نختص بعض الحقول التي يدلل نشاطها على ملامح نوعية، وأولها الترجمة، فالكتب المترجمة في ازدياد، والاهتمام بالترجمة عامل إخصاب وإثراء للثقافة والفكر والوعي. وهو علامة نوعية على هذا الإخصاب والإثراء تنفتح به الثقافة على أفق مختلف في مَصَادره، وفي موضوعات انشغاله، وفي آفاقه المنهجية. وذلك من دون أن نغفل عن أن محصول الترجمة لا يتساوى مع عدد الكفاءات السعودية التي يُفترض تأهُّلها للاضطلاع بها، ولا مع اهتمام كبريات جامعاتنا بتدريس لغات عديدة.

ويشبه هذا المنشط النوعي بروز الاهتمام بالفلسفة، فهو وإن كان محدودا، فإنه يصنع علامة نوعية للدلالة على ما تطرحه الفلسفة من رغبة في الدفع بالفكر إلى أقصى ما يمكنه بلوغه، وانعتاقه باتجاه العقل الكوني الذي يجاوز الحواجز المصطنعة. وسواء استدللنا على هذا المنشط بصدور بعض الكتب، أو الانتظام في بعض الفعاليات والندوات، فإننا بإزاء دلالة على مكانة مستجدة للفلسفة ضمن دائرة مناشطنا الثقافية.

وحضور المرأة المبدعة والمثقفة والأكاديمية والإعلامية، علامة نوعية ثالثة، في الدلالة على عموم الهم الثقافي، واتساع دائرة المشاركة فيه والدفع به. فالمرأة الفاعلة ثقافيا وفكريا دلالة تقدمية على مجتمعها وثقافتها، وهو تقدُّم تدلل عليه المرأة لأن التخلف الاجتماعي والجمود الفكري لا يتضحان في مظهر أكثر منه في عزل المرأة عن حركة الوعي، وغيابها عن ساحة الثقافة.

وأظن أن مقارنة عدد الإصدارات التي تؤلفها المرأة السعودية، بما يؤلفه شقيقها الرجل، ترينا أحياناً حجما ضئيلا للفارق، وهو فارق في بعض سنوات العقدين الأخيرين ليس لصالح الرجل، حين تفوق -تحديداً- عدد الإصدارات الروائية للمرأة، والفارق قد لا يكون كبيراً في بعض الحقول الأخرى. إضافة إلى تزايد أعداد الكاتبات في الصحافة، والخريجات الأكاديميات، والإعلاميات.

وليس حضور المرأة بهذا الحسبان حضورا عدديا فقط، بل هو حضور ينم في بعض مستوياته عن الهوية الأنثوية، في استقلالها وطبيعة أحلامها وهمومها وأفق خيالها، وما تسبغه على الثقافة من معان أكثر انحيازا إلى السِّلم والدفء والجمال والوئام الأسري، وإحساسا بقيمة الحياة وخصوبتها، ووعيا نقديا تجاه مكبوت الثقافة ومضمرها الذكوري الاستبدادي.

ويمكننا أن نلتفت إلى زاوية أخرى للنظر ترينا الملمح التقدمي لثقافتنا، وهو بروز موضوعات بعينها في ما تتناوله المؤلفات وما ينشغل به الكتاب السعوديون في الصحافة، مثل: الإعلاء لقيمة التسامح، والدفاع عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان والحرية، ونقد الخطاب الديني، والتحليل للثقافة ونقدها، والحملة على العنف والتطرف، والحفاوة بالحوار بوصفه حفاوة بالتعدد والاختلاف… إلخ.

فهذه الموضوعات وما إليها، في كثافة تناولها، وعمق الاستدلال عليها، وانفتاح أفق الخطاب تجاهها، دليل على أن الثقافة السعودية تتخطى نمطيتها وتتجاوز ذاتها، بحثا عن زمن جديد، وولوجاً إلى ما يطرحه من أسئلة لم تكن غائبة تماما في أزمنتها الماضية، لكنها كانت في دائرة محدودة ومحاصَرَة.

وبروز مصطلح «الترفيه» في الآونة الأخيرة، يشبه بروز مصطلح «السياحة» لدينا في الآونة نفسها، حين أصبح لهذين المنشطين وجودٌ مؤسَّسي ضمن أجهزة الدولة، وجهدٌ في تخليق أفق لم يكن يحظى بالتفات. وهذان منشطان ثقافيان بامتياز؛ فالفعاليات والبُنى التشريعية والمادية اللتان يعملان عليهما، تصنعان وعياً إيجابيا نحو ما يُمتِع وما يثير التأمل والخيال والوجدان، وما يهذِّب الذائقة ويرقى بها، وينفتح على إدراك أعمق للإنسان في كليته.

أما الجوائز المخصَّصة للمؤلَّفات وللشخصيات المنتجة في حقول الفكر والثقافة، فقد تكاثرت محليا في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، وهذه علامة على اتساع دائرة الاهتمام. وأعداد المرشحين للجوائز والفائزين بها من السعوديين داخل المملكة وخارجها، علامة على تزايد أعداد المنتجين المتميزين. وهي النتيجة نفسها التي نستنتجها حين ننظر إلى معارض الكتاب، وإلى أعداد الملتقيات والندوات والمؤتمرات التي تنظمها الجهات المختلفة في طول المملكة وعرضها، والتي لم تكن بهذه الكثافة منذ مدة ليست بعيدة.

لكن المتأمل لابد أن يأسى على مصادر القصور التي لا تساعد على مزيد من إنضاج الحركة الثقافية، وتحفيز خطاها، أو تسيء تمثيلها لذاتها وللآخرين.

فالقناة الثقافية السعودية، ضعيفة الأثر، إن لم تكن سلبية الأثر تماما. فما تقدِّمه لا يرقى إلى المستوى الفعلي للثقافة. وإذا كانت بعض الأقلام قد كتبت في الصحف اقتراحا جدِّيا إلى وزير الثقافة والإعلام بإلغائها ودمجها مع القناة الأولى، فإن هذه الأقلام لم تكن تتدبَّر الأهمية التي يمكن أن تضطلع بها هذه القناة، في صناعة الفكر والثقافة محليا، ولا في الصورة التي تنقلها عنا، خاصةً أن مشاهديها هم الطبقة المثقفة والعالمة، وهذا ما يجعلها من أهم القنوات السعودية إن لم تكن أهمها جميعا.

ولا يكاد يختلف عن أثر القناة الثقافية، أثر الصفحات الثقافية في معظم صحفنا، فهي لا تصنع حدثاً ثقافيا ذا جدارة وأهمية، ولا تجترح تحريك سكونه وبعث الحيوية فيه. ويمكن للمرء أن يلحظ بصمة العلاقات الشخصية فيما يتفاعل معه أو يمارسه عديد المحرِّرين والمراسلين لها، والدوران في الأفق المحدود نفسه، سواء من حيث المحتوى أو من حيث الأسلوب. وقليلا ما يتألق أحد الصحفيين النابهين فيما يلتقطه بذكاء، ويصنعه بوعي، وفيما يحاول نفخ الروح فيه، ولكنه يغيب في الكثرة المنطفئة.

وتتحمل الإدارة الثقافية جزءا غير قليل من القصور، فالجدل بشأن تعديل لائحة الأندية الأدبية الذي أخَّرها، حين يأخذ شكل صراع على النفوذ بين الأكاديميين والأدباء، أو بين المثقفين والأدباء الحقيقيين وبين المتسلقين على الثقافة والمدعين لها، هو مثل التقشف الذي تفرضه الوزارة على جمعيات الثقافة والفنون في مقابل سخائها على الأندية، ينبع من ارتباك مفهومي واستراتيجي صنعته الوزارة ابتداء أو وَرِثَتْه، وباتت عالقة في ورطته، ويدل على أنها مازالت مأسورة إلى التصورات ذاتها التي لن تتطور معها إدارة الثقافة ولا تشريعاتها ولا إعادة هيكلتها.

وهذا لا يقل عن غياب المشاريع الثقافية إلى الآن عن رؤية الوزارة، المشاريع التي لا تحتاج إلى ابتكار، فقد سبقتنا دول شقيقة إلى إنشاء مراكز للترجمة، ومجالس عليا للثقافة تدير إصدار كتب شهرية ذات قيمة، ومجلات متخصصة في الفنون والآداب، ومعاهد للفنون… إلخ. ولا يقل عن إعنات الوزارة للمؤلفين بنظام فسح الكتب وصعوبات النشر في الداخل.

ومن المؤكد أن الجامعات ليست بريئة من القصور في شأن الثقافة، وهي في حاجة إلى التفاتة جدِّية نحو إحداث قفزة في مناشطها وفي وعيها بالثقافة.