كنت في زيارة لجامعة البحرين الأسبوع الماضي، لمناقشة رسالة جامعية، فوجدت الزملاء في كلية الآداب، وفي قسم اللغة العربية تحديدا، منهمكين في تحضير البيانات الخاصة بمعايير «الجودة الشاملة» وتنظيم ملفاتها، وكل ما يتعلق بضمانها في أداء القسم ومخرجاته.

وهو الانشغال نفسه الذي كانت كليتنا ضمن كليات جامعة الملك سعود، منخرطة فيه منذ نحو عشر سنوات، مثلما كانت الجامعات السعودية، أو صارت -من بعد- إلى الانشغال به.

ولسنا ننسى، في أوقات مختلفة في غضون السنوات العشر الماضية، احتفالات عديد الأقسام والكليات، في المملكة، بالحصول على شهادات اعتمادها الأكاديمي من الهيئة الوطنية السعودية للتقويم والاعتماد الأكاديمي، وبعضها على شهادات من هيئات عربية ودولية.

وقد عم الانشغال بالجودة الشاملة، في العقد الأخير، جامعات عربية عديدة، مثلما عم التعليم العام، في عدد من البلدان العربية، في مراحله التي تسبق المرحلة الجامعية.

كان الزملاء في البحرين يعيشون بعض القلق انتظارا لتقويم هيئة عربية مختصة بشأن قياسات الجودة وتقويمها. وقد عَرفت هذه الهيئة العربية، وهيئة أخرى أميركية، حين زارا قسمنا بدعوة لهما تحمّلت الجامعة تكاليفها التي لم تكن قليلة. وجاءت نتائج زيارتهما -على تفاوت بينهما- محملة بـ«الثناء والإشادة» وببعض الملحوظات.

والعلاقة بين التقويم والجودة الشاملة علاقة ضرورية، فمن دون مسح وقياس شامل لجوانب العملية التعليمية كلها، انتهاء بقياس مخرجاتها التي تتحقق فيها أهداف المؤسسة التعليمية، من حيث الكفاءة والملاءمة والمهارة والمقدرة، ومن حيث الأعداد التي تتخرَّج دوريا، لا يمكن إدراك مستوى الجودة، ولا العمل على تحقيقها، فضلا عن دوام تطويرها وتحسينها.

بل إن الأهداف نفسها التي تتبناها الخطط التعليمية، وتنشأ من أجلها مؤسسات التعليم وبناه وبرامجه، وتقاس جودة تلك الخطط والمؤسسات بمقدار تحقيقها، هي أحد الجوانب المبدئية التي تخضع للتقويم، فقد تكون الأهداف المرسومة مختلّة أو قاصرة نظريا أو عمليا.

هكذا يصبح همّ الجودة الشاملة في مؤسسات التعليم هَمّا علميا، أعني مجال انشغال للبحث والتساؤل والتحليل والتنظير، بوصفه حقلا حديثا من حقول الإدارة، مثلما يصبح همّا عمليا في أكثر من مستوى: مستوى المؤسسات الجامعية والتعليمية، ومستوى خطط التنمية للدولة، ومستوى إدارة الأعمال في القطاعات المختلفة.

ولذلك يتضافر في اقتضائه والحاجة إليه، الجانبان: الداخلي المتصل بالإدارة التعليمية والتربوية، فهو بالنسبة إليها امتحان لكفاءتها وأدائها، ومجال لاختصاصها المعرفي وتطويره، والخارجي المتعلق بانتظام مؤسسات التعليم العالي والعام، في مجتمع يتطلب منها إمداده بالكفاءات الملائمة لحاجاته العملية والتنموية، والقادرة على الاضطلاع بدورها المطلوب، وفي عالم يستدعي المنافسة والمغالبة.

وربما يبدو مفاجئا لحسباننا، أن من أهم أسباب الاهتمام بالجودة الشاملة في مؤسسات التعليم، الشعور بالحاجة إلى ترشيد الإنفاق، والحد من الهدر المالي على التعليم، عن طريق تركيز كفاءته النوعية وضبطها. فالجودة -من هذه الوجهة- ليست ترفا تستدعيه الوفرة المالية والرخاء الاقتصادي، ولا صدقية لها في أي مؤسسة تعليمية ما لم تُثبت تغييرا إيجابيا في مخرجاتها ونفعا ملموسا عمليا في تقدم مجتمعها.

انخراط الأقسام الجامعية في الوفاء بمتطلبات الجودة، استلزم إنشاء وحدة معنية بها في كل قسم، إضافة إلى وكالة للكلية باسم وكالة التطوير والجودة، وعمادة مستقلة في الجامعة باسم عمادة التطوير والجودة، ووكيل للجامعة مختص في هذا الشأن هو وكيل الجامعة للتخطيط والتطوير.

ويقوم نشاط وحدة الجودة في كل قسم، أكثر ما يقوم، على تكليف الأساتذة بأن يُعِد كل منهم، في نهاية كل فصل، ملف المقرر الذي قام بتدريسه، متضمنا، بنسختين ورقية وحاسوبية، نموذج سيرته العلمية، والتوصيف المعتمد للمقرر، ونماذج الأسئلة والأجوبة، وعينات من إجابات الطلاب وأعمالهم الأخرى، وإحصاء لنتائج الامتحان، وما يراه الأستاذ من ملحوظات على المقرر وعلى أداء الطلاب… الخ.

وهذه معلومات ثمينة للتقويم والتطوير، لو كانت تنتهي بالفعل إليهما، وكانا قصدَها الحقيقي. لكن رفوف وحدة الجودة ومخازنها، ما زالت تنوء بالملفات الورقية، والأقراص المضغوطة التي لا يعرف أحد متى تفصح عن محتواها، ومتى تبوح بأحكامها، أو متى تكون هي موضع أحكام التقويم والجودة التي لا ترحم.

وليس الأساتذة سواء في التجاوب مع متطلبات الجودة، خصوصا في الإعداد المتكرِّر لملفات المقررات في كل فصل. فعدا الفئة القليلة التي لا تتجاوب تكاسلا، هناك فئة - وهي قليلة أيضا- ترى في التجميع لهذه الملفات من دون الخلوص إلى نتائج إيجابية ملموسة في المخرجات والتطوير، عبثا لا طائل من ورائه، وشكلا بلا مضمون، وإهدارا للجهد والمال.

وقد يُسِرّ هؤلاء حينا ويُعلنون حينا آخر، عن اقتران مشروع إدارة الجودة الشاملة في مؤسسات التعليم العالي السعودية، بالرغبة في رفع مستوى تصنيف الجامعات السعودية، في قوائم التصنيف العالمية. وهي مبدئيا رغبة قمينة بالتقدير، لكنها -من وجهة نظرهم- أخذت صفة دعائية وإلحاحا لدى بعض مسؤولي الجامعات، ودفعتهم إلى ممارسة شكلانية زائفة.

ومن دلائلهم على ذلك، ما كشفت عنه «مجلة صاينس» الشهيرة، وذات الموثوقية، عام 2011، حين اتهمت جامعتين سعوديتين بشراء الانتماء الثاني لعشرات الباحثين العالميين بمبالغ باهظة، في عقود تظهر عليها الصورية والزيف، مستدلة بنصوص العقود، وبشهادات عدد من أولئك الباحثين الذين رفض بعضهم القبول بما تتضمنه من عرض، ترفّعا عن أن يزيّف اسمه وضميره. والمجلة تذكر أن الغرض الحقيقي من شراء انتماء أولئك الباحثين، هو رفع مستوى تصنيف الجامعة في بعض مواقع التصنيف، وهو ما حدث فعلا وبشكل مفاجئ حينها.

هذه الشكلانية التي اقترفتها بعض الجامعات من أجل التلاعب برفع تصنيفها، هي الشكلانية نفسها التي بات حصول وحدات الجامعات على شهادة الاعتماد، عن طريق التحضير لمتطلباته الشكلية، إيهاما بتحقيق فعلي لمستوى الجودة في التخطيط والإدارة والأداء والمخرجات. وهو الإنجاز الذي كانت بعض الأقسام كما كانت بعض الكليات تحتفل به، وتنشر إعلانات صحفية عن حصولها على الاعتماد، في صفحات كاملة أحيانا، مكلفة لميزانية الجامعة، تزف فيها بشارته، وتهنئ نفسها ومنسوبيها والمسؤولين في الجامعة!

وليس لأحد أن يشكك في أهمية الجودة الشاملة في التعليم، ولا أن ينتقص من قياساتها، وإجراءات التقويم لها، ولكنها موضع شك فعلي حين تفقد صدقيتها، فتغدو شكلا دون محتوى، وجهدا ليس له مصب. وهي على هذا النحو ليست جهدا عبثيا فقط، بل هي -كذلك- ممارسة خطرة لأنها تحجب عن رؤية واقع التعليم الجامعي، وتسوِّق للقائمين عليها بطولة كاذبة وبهرجة سطحية أمام المجتمع والمسؤولين، في حين تزداد بطالة الخريجين، ويزداد تردي تحصيلهم والمهارات المنتظرة منهم، ويزداد الهدر المالي.

إن الحاجة ماسة إلى مراجعة مشروع إدارة الجودة الشاملة في جامعاتنا، لا لإلغائه أو تجميده، وإنما لتصحيحه واستثماره فعليا في تطوير الجامعات، وتحقيق الجودة في مخرجاتها، وكف يد العبث والفساد عن مخصصاته المالية السخية، وإدارتها بشفافية وموضوعية وانضباط.