منذ أن كنت في صفوف قسم القانون في كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبدالعزيز، كلية الحقوق حاليا وأنا أرى مظاهر عامة سلبية على الساحة القانونية، وأحدها وجود ممانعين شرعيين للتقنين، وهي بكل بساطة عملية تشريع القوانين، ووضع الشريعة في قوالب قانونية مكتوبة، رغم أنه لا مشاحة في الاصطلاح إلا أننا نستخدم كثيرا كلمة نظام بدل كلمة قانون، فهذه الثقافة السلبية الممانعة لكل جديد منعت كثيرا من التقدم القانوني في السعودية، وأحدث الأدلة على ذلك الكتاب الذي صدر مؤخرا بعنوان كليات القانون والحكم بغير ما أنزل الله، وكاتبه قاض برتبة رئيس محكمة، حيث يعج الكتاب بكل ما هو سلبي تجاه القانون والقانونيين!

على نفس الوتيرة لا يعمل القانونيون كقضاة رغم أن القانون يسمح لهم بكلمة «ما يعادلها»، ويقصد هنا شهادة الشريعة، القانون هذا بحاجة إلى التعديل، فشهادة الشريعة لا تعادل شهادة القانون، نظرة بسيطة للخطة الدراسية لطالب الشريعة تجد أنها دراسة دينية بحتة، لا تمت بصلة أبدا إلى الواقع العملي القانوني، وعلى العكس طالب القانون يدرس مواد قانونية بالكامل، ويضاف إليها مواد شرعية كالمواريث والوصايا وأصول الفقه والأحوال الشخصية والقواعد الفقهية، لذا فهو عقلا مؤهل للقضاء أكثر بكثير من طالب الشريعة. من ناحية أخرى هناك في السعودية ثلاثة توجهات فكرية بشأن القانون والشريعة، فهناك رأي يرى الجمع بين الشريعة والقانون، وهذا الرأي تدحضه حقيقة اختلاف القانون عن الشريعة، فالشريعة قد تكون مصدرا للقانون، مثل استخدام القواعد العامة الشرعية لاستنباط القانون، لكنها لا تصلح للتطبيق بشكل مباشر، بسبب أنها ليست مخصصة تخصيصا خاصا، بل هي عامة، والجميع يعرف أن الشريعة لم تغط جميع الجوانب، جوانب كثيرة في قانون الدولة والاقتصاد والاجتماع مما تأثر بالعولمة لم تستوعبه الشريعة، وخصوصا الجانب القانوني، ولا أدل على الاختلاف من حقيقة أن الحكم الشرعي للدخان حرام، ولكن الحكم القانوني للدخان أنه مباح شراؤه وبيعه وشربه، الرأي الآخر يرى استفراد الشريعة بالمشهد، وهذا رأي أغلب المتزمتين فكريا، وهذا الرأي تدحضه حقيقة أن الشريعة كما تقدم لم تغط جميع الجوانب، والحق يقال أن الشريعة لم تراع الحداثة القانونية في المشهد السعودي، فما زال كثير من الشرعيين يعتقدون بحرمة التقنين، ولا يخفى على المتابع تأثر القانون السعودي بالمدارس القانونية المختلفة على الصعيد الدولي من ناحية التشريع، هؤلاء المتزمتون فكريا يقولون بدعوى كمال الشريعة من باب «أكملت لكم دينكم» رغم أن هذا لا يعني كمالها الحقيقي، بل إكمال الرسول الكريم لرسالته، وما يستحدث نكمله نحن بمسمى فقه النوازل، وهذا يعني صلاح الشريعة لكل زمان ومكان، ومرونة الشريعة هذه هي أقصى الكمال.

 فمن باب آخر «أنتم أعلم بأمور دنياكم» يفتح المجال تماما للتقنين، وما دام الاختلاف موجودا نأخذ بالمختلف عليه، ولا عتاب علينا في مراعاة للمصلحة العامة، فحتى الآن ليس لدينا قانون يحدد جريمة القتل، والاعتداء يصنفها على درجات، ولكل درجة عقوبة معينة، عندما يكون للقاضي سقف لا متناه من السلطة التقديرية فخطؤه متوقع أكثر من صوابه، فالقاضي المفترض به أن يحكم ضمن القانون لا بناء على حكمه الشخصي لأنه عندئذ يصبح شاهدا خبيرا لا قاضيا، وهذه النقطة الأخيرة محل خلاف بين الشرعيين أنفسهم، عندئذ كيف نطالب القاضي الشرعي في المحاكم العامة الذي لم يدرس القانون أن يحكم بشيء لم يدرسه!

 الرأي الثالث يرى تفرقة القانون والشريعة ومنح الاحترام لكل منهما، فالقانون علم قائم بحد ذاته والشريعة كذلك، ولا يعني ذلك تنازلا عن الشريعة، بل لا تزال هي مصدرا من مصادر التشريع في السعودية، فاحترام القانون يعني أننا سوف نطبق السوابق القضائية، وبالتالي تثبت الخبرة القضائية، احترام القانون يعني أننا دولة مؤسسات وسيادة نطبق القانون على الجميع، وما فعلت اللجنة العليا لمكافحة الفساد مؤخرا إلا تأطير لمرحلة قادمة، يكون القانون فيها هو سيد المشهد، فلا يوجد مجتمع حضاري لا يعلو فيه صوت القانون، ويبقى التقنين الكامل في ظل رؤية 2030 مطلبا وطنيا تتطلبه المرحلة الحالية والقادمة، وأتمنى أن تكون لنا مدرسة سعودية قانونية تضاهي المدرسة الفرنسية والأنجلوسكسونية يوما ما!