لا شيء أوضح دلالة في مقتل علي عبدالله صالح، على يد حلفائه الحوثيين في الانقلاب على الحكومة اليمنية الشرعية، والتنكيل به بطريقة وحشية، ورفض تسليم جثته لأهله، وما تبعه من تصفية أو اعتقال لمن استطاعوا الإمساك به من زعماء حزبه وقادة قواته… إلخ وما يرشح تبعا لذلك من تهاوي اليمن إلى مزيد من العنف والبؤس - لا شيء أوضح دلالة في ذلك مما تمثله الجماعات العقائدية المؤدلِجة للدين والمتذرِّعة به سياسيا، من عدمية وتوحُّش وإرهاب ولا معقولية.

المسافة بين تنظيم الحوثي وتنظيم داعش معدومة نهائيا، على الرغم من الاختلاف المذهبي بينهما، وعلى الرغم من إطلاق الحوثيين صفة «الدواعش» أو ما يشبهها من أوصاف تصنيفية دينية متطرفة، على معظم خصومهم السياسيين، وتبرير عنفهم وانقضاضهم على السلطة -فيما يبررون- بذلك. وهي المسافة المنتفية نفسها بين الحوثيين وأي جماعة دينية سياسية، سواء كانت شيعية مثل «حزب الله» الذي صاغوا اسم جماعتهم «أنصار الله» على وجه التشابه معه في الإضافة إلى لفظ الجلالة، أو كانت جماعة سنية.

ولم تكن هذه الدلالة على الحوثيين خافيةً منذ ظهور حركتهم؛ ولهذا خاضت الدولة اليمنية برئاسة علي عبدالله صالح نفسه حروباً ستاً، ضد الحوثيين، في الفترة من 2004- 2010م ، مستثيرةً الرأي العام اليمني ونُخبه المثقفة بخطر الجماعة على الدولة اليمنية؛ إذ تسعى إلى إسقاط الجمهورية اليمنية لتعيد «الإمامة الزيدية» المصطلح الأكثر دلالة على الظلامية والتخلف والثيوقراطية في الذهنية اليمنية التي عَبَرت قنطرة الثورة ضد الإمامة، منذ 26 سبتمبر 1962م، أو نشأت بعد الثورة في فضاء تتردد فيه مصطلحات الشعب والديموقراطية والتعددية الحزبية والدستور وصندوق الانتخابات، وتحلم بحياة أكثر انفتاحاً على العصر والعالم.

و«الإمامة» في المفهوم الحوثي هي «الخلافة» في المفهوم السلفي الجهادي، الذي بلغ ذروته على يد تنظيم «داعش» بإقامة دَوْلة، وُصِفت من قبل التنظيم نفسه بـ«الدولة الإسلامية» بألف لام التعريف، في العراق والشام، وسُمّي زعيمها بـ«الخليفة»، وراج وصفها في الأدبيات الجهادية السلفية بـ«دولة الخلافة». وكما كانت خلافة داعش خلافة طائفية ومذهبية، تُنسَب إلى الإسلام بالتعميم، كانت الإمامة عند الحوثيين طائفية زيدية هاشمية، تُنسَب -أيضاً- إلى الإسلام بالتعميم، وتقاد من قبل شخصيات هاشمية زيدية، ويتركز هدفها في إحياء الإمامة، التي لا يجوز من منظور عقيدتهم، أن يكون إمامها (الخليفة) إلا هاشمياً.

وبوسعنا أن نقرأ إستراتيجية الرؤية إلى الشعوب والحكومات العربية والإسلامية، في هذا المنظور العقائدي الأصولي المتطرف، بالقدر نفسه الذي يمكن أن نقرأ الرؤية فيه إلى العالم أجمع، وذلك من المقولات والشعارات التي ترفعها هذه الجماعات، وترددها دونما ملل أو فتور. فالشعار الحوثي: «الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام» هو شعار موجَّه لمحاربة الحكومة اليمنية والشعب اليمني، والدول العربية الشقيقة لليمن، وعلى الأخص شقيقة اليمن وجارته الكبرى السعودية، وليس على أمريكا وإسرائيل منه أدنى خطورة. وهو هكذا لا يختلف عما تُردِّده الجماعات الأخرى، خصوصا تكرار صفة الكفر والكفار لدى داعش وأخواتها، قصدا إلى بناء دلالة المفاصلة بين هذه الجماعات وغيرها من أبناء شعبها وملتها والعالم، على مبدأ الإيمان والعقيدة، الذي لم يعد شيئا آخر غير إيديولوجيا الجماعة: إيديولوجيا تُخضع الدين وتُشكِّله على مزاج انتهازيتها السياسية؛ فتنتهي إلى تدمير الدين وتدمير السياسة جميعاً!

أما اللحظة الحاضرة في أحداث اليمن، بعد مقتل علي عبدالله صالح، فإن وضوح دلالتها على الحوثيين من حيث هم جماعة ظلامية إرهابية وبلا أفق، لا ينفصل عن دلالتها على «الدكتاتور» الذي لا يعمل -كما هو حال كل دكتاتور- لحساب الدولة، وإنما يجعل الدولة تعمل لحسابه وإدامة قبضة نفوذه المطلق على السلطة. ومن هذه الزاوية، لا مسافةَ فارقةً بين الدكتاتور وبين الجماعات الإرهابية في اجتماعهما معاً على رفض الآخر، ونفي المختلف، والتألُّه والاستبداد. إنهما معاً، مجرَّدَين عن تجسُّدهما في مُعيَّن، دلالة على الذاتية في أقصى درجات أنانيتها، وعلى الفكر حين ينغلق فيأبى أن يتقبَّل الاختلاف مع غيره لأنه يأبى مبدئياً الاختلاف مع ذاته.

هكذا كان وجود علي عبدالله صالح في السلطة وخارجها، غشاوةً لا تنجلي، مع رغبته الملحة بالاستمرار في السلطة، خطورةُ الحوثيين أكثر من انجلائها بعد مقتله على أيديهم بعد أن غضبوا عليه من تنكُّره لحِلْفه معهم طوال ما يقرب من ثلاث سنوات. فحروبه إياهم تُماثل حِلْفه معهم، في التغطية على خطورتهم: من جهة، بتصويره إياهم أعداء للدولة، وهم حقا كذلك، لكن الدولة هنا باتت هو، عند طيف واسع من اليمنيين أقلُّهم الجموع التي تظاهرت طلبا لتنحِّيه عن السلطة عام 2011م، بحيث لا يتميز -عندئذ- عداء الحوثيين للدولة ولا ينجلي كما يجب. ومن جهة أخرى بوصفه إياهم شركاء في الدولة، وهو الوصف الذي تنامى بتحالفه معهم، ليصبحوا -مِثْله!- الأمناء عليها ضد أعدائها الذين أصبحوا من منظوره ومنظور الحوثيين الحكومة الشرعية والمتحالفين معها.

لقد كان الحوثيون أعداء للدولة اليمنية حقا، وكانوا أعداء لصالح ادعاءً؛ لأنه كان يجد فيهم ضرورة توازن مع السلفيين وغيرهم، ومع القاعدة وبالعكس، وهذا غير قوى القبائل والأحزاب والتوازنات مع الخارج، وكلها رؤوس «الأفاعي» التي كان يرقص عليها، كما هي العبارة البهلوانية الشائعة في وصف مَكْره ودهائه، الذي لم يكن أكثر من إغراء بعضهم ببعض، وتخييل ضرورة زعامته والاقتضاء له، في داخل اليمن وخارجها. وبذلك أصبح مقتله «المؤسف» على أيديهم -بعد أن بدأت بوادر تحوُّله ضدهم في ملاعبة جديدة منه للحكومة التي انقلب معهم عليها- تعريةً كاملةً لهم، أمام الشعب اليمني والعالم.

الآن لم يعد حال اليمن يسمح بمزيد من التلاوم بين أقطابه السياسيين، وأصبح متاحاً أكثر -ربما- من أي وقت مضى انجلاءُ مشكلة اليمن الأزلية في الترسيخ للدولة وسلطانها وانتمائها وهويتها الجامعة لمكوناتها. إنْ تمكَّن الحوثيون من الاستحواذ على السلطة فسيعيدوا اليمن إلى الزمن الغابر، إلى عهد المملكة المتوكلية، وإن ظلوا آمرين عليها بسلاحهم فسيصنعون دولة مشلولة ومختطفة من الميليشيا كما صنع حزب الله في لبنان. وإذا اتسعنا بدائرة النظر فإن الحوثيين مثالٌ يلحُّ على اليمن الآن بسبب قوتهم وسلاحهم، وإلا فإن كل فكر عقائدي مغلق ومستبد، سواء تمثَّل في جماعة دينية أو قبيلة أو حزب أو شخص، سينتهي، إن امتلك السلطة أو القدرة على منازعتها، إلى الإضرار بالدولة أو تعليق وجودها الفعلي.