وافق مجلس الشورى مؤخرا على دراسة مقترح تعديل الفقرة «د» من المادة «31» من نظام القضاء، وذلك «بهدف تمكين خريجي القانون والحقوق بممارسة القضاء بعد الحصول على التأهيل اللازم في العلوم الشرعية»، ويرى أصحاب هذا المقترح من أعضاء مجلس الشورى أن «الأهداف التي سيحققها مثل هذا التعديل، تتمثل في الإسهام في توفير الكوادر القضائية المتخصصة المؤهلة في الشريعة والأنظمة في جميع مجالات المنازعات، بما في ذلك المنازعات التجارية، والملكية الفكرية، والطبية، والعمالية، والمالية، والمصرفية، والتأمين، والإدارية».

تمر المملكة العربية السعودية اليوم بتغيرات تاريخية وتطورات نوعية سريعة في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن ذلك على سبيل المثال: مكافحة الفساد، والسماح للمرأة بقيادة السيارة، وتنويع مصادر الدخل، وتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي، وتحتاج مثل هذه البرامج والمشاريع -كي تنجح- إلى وجود منظومة قانونية وقضائية متكاملة، وبالتالي فإن تطوير القضاء وتجديد الفقه التقليدي، شرطان أساسيان لانطلاق حركة تطوير وتنوير اقتصادية واجتماعية، تأخذ بهذه البلاد وشعبها إلى طريق التقدم في جميع المجالات. لقد تحدثت في مقالات سابقة عن أهمية إنشاء محاكم متخصصة، والحاجة إلى وجود محاكم تجارية، ومحاكم عمالية، ومحاكم مرورية، ومحاكم لجرائم الأموال العامة، إضافة إلى ضرورة الاعتراف بالتخصصات القانونية الأكاديمية، وتأهيلها في المجال القضائي، فنحن في العام المقبل 2018، سنشهد تطبيق قرارات وبرامج جديدة، ومن ذلك على سبيل المثال:

* تطبيق ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات، وتفعيل المنافسة وجذب الاستثمارات، برامج الخصخصة وتوسيع مشاركة القطاع الخاص، وهذا يتطلب وجود نظام قضائي تجاري متخصص، يكون داعما لحركة النمو الاقتصادي، مع وجود قوانين تجارية موحدة ومستقلة عن فروع القوانين الأخرى، تحت إشراف قضائي متخصص، يتضمن رؤية واضحة نحو الالتزامات التجارية، مما يكسب النظام الاقتصادي احترام وثقة المتعاملين معه، وبالتالي تطبيق القوانين بشكل فعال ودون استثناءات.

* تطبيق قرار قيادة للمرأة للسيارة، وهذا يتطلب أيضا وجود محاكم مرورية متخصصة، فضلا عن مخاطر التحرّش التي تحتاج إلى قوانين تتضمن أشكال التحرش، وكيفية تطبيق القوانين، وتحديد المسؤوليات، وكيفية الإشراف والرقابة على تطبيقها، إضافة إلى الحاجة لوجود إستراتيجية وطنية تشمل معايير مرجعية ومؤشرات تضمن وجود إطار عمل مناسب، لمقاربة شاملة ومنسقة لتطبيق هذا القانون.  ومما سبق، يتضح أهمية وجود محاكم متخصصة، وهذا يعني أهمية وجود كوادر متخصصة في القانون والحقوق أيضا.

وللأسف الشديد، يعترض بعض رجال الدين على مسألة «التخصص في القانون»، ولهذا قد يتحفظ البعض في أن يكون متخصص القانون قاضيا في المحاكم، فالبعض يرى أن القوانين التي يتم تدريسها في الجامعات «حكمٌ بغير

ما أنزل الله»، وأداة العلمانية في فصل الدين عن الدولة، فهذه القوانين تعدّ «كفرا بواحا وشركا بالله».

وفي هذا الصدد يقول أحد دعاة الدين، إن من «يدرس القوانين أو يتولى تدريسها ليحكم بها أو ليعين غيره على ذلك، مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله، ولكن حمله الهوى أو حب المال على ذلك، فأصحاب هذا القسم

لا شك فُسّاق وفيهم كفر وظلم. وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم، وهو قول ابن عباس وطاووس وعطاء ومجاهد وجمع من السلف والخلف، كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي، وغيرهم».

ومن أبرز الأدلة التي يستند إليها الرافضون لتدريس القوانين في الجامعات وتطبيقها في المجال القضائي، واعتبارها من الكفر البواح ومدخل العلمانية: «أن من أصول العقيدة الإسلامية، الحكم والتشريع حق لله وحده»، كما قال تعالى: «إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين»، إذ يفهم من هذه الآية أن القانون مختص بالله وحده، فلا يحق لأحد وضع قانون غير الله تعالى.

إن الشريعة الإسلامية لا تتحقق بحفظ النصوص الدينية وتلاوتها ومراعاة المظاهر الخارجية، ولكنها تتحقق بتحويل النصوص إلى قوانين وتشريعات مكتوبة، فتكون جزءا حيّا نابضا من حياة كل مسلم، وفي كل مجتمع إسلامي، والرافضون للقوانين يعتقدون أن الأحكام الفقهية هي من صميم الشريعة الإسلامية، وبالتالي هي أحكام إلهية خالصة، وهي في الحقيقة تعكس في مضامينها الفهم البشري لنصوص القرآن والسنة المطهرة، وكذلك للقضايا والوقائع التي يواجها الإنسان في حركة الحياة، فهي ليست أحكاما إلهية خالصة لا تقبل النقد والرد كما يعتقد البعض.

أما فيما يتعلق بالأدلة التي يستند إليها الرافضون للقوانين، واعتبار المطالبين بها كفارا وفُسّاقا وظلمة، فالمعنى في الآيات لا يراد به القانون أو التشريع على إطلاقه، وإنما تتعلق الآيات بمبادئ العدالة ونبذ الظلم وكتمان الحق لإضرار بالغير وحفظ كرامة الإنسان، فحكم الله هو العدالة والمساواة بين البشر، وهذه من المبادئ الإسلامية الثابتة، وبالتالي، فإن الأحكام الفقهية والفتاوى وكذلك القوانين الوضعية، هي من مقررات الشريعة الإسلامية المتغيرة، والتي يجتهد في صياغتها البشر جميعا، سواء كانوا من رجال الفقه أو الخبراء والمختصين والدارسين في المجال القانوني.

ولهذا، نأمل في القريب العاجل تعديل المادة «31» من نظام القضاء، بحيث يتم توفير الكوادر القضائية المتخصصة المؤهلة في الشريعة والقوانين المتخصصة في المجالات التجارية، والعمالية، والمالية، والمصرفية، والإدارية، وإتاحة الفرصة لخريجي كليات الحقوق والقانون في المملكة للعمل في سلك القضاء، بما يحقق رؤية المملكة 2030.