وسط أشجار الغابات ببلدة مكسيكية مجهولة، تقبع جثة يبدو أنها لشاب غطي وجهه بقناع أسود، بينما قُيدت يداه خلف ظهره. بهذا المشهد الصادم يبدأ المخرج المكسيكي إفيراردو جونزاليس فيلمه الوثائقي الدرامي «لا ليبرتاد ديل ديابلو/ حرية الشيطان»، وهو رحلة نفسية مكثفة يستكشف فيها المخرج أثر الجريمة المنظمة في المكسيك على ضحاياها ومرتكبيها.
الفيلم الذي عرض الخميس في قسم البانوراما الدولية من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي يستمر حتى 30 نوفمبر، هو عبارة عن سلسلة مقابلات أجراها المخرج مع عدد من الأفراد الذين غيرت الجريمة المنظمة، لا سيما القتل والاختفاء القسري، حياتهم.
وجوه ملثمة
رجال ونساء وأطفال، مجرمون وضحايا وأفراد من جهات القانون، لا قاسم مشتركا بينهم سوى أنهم جميعا يرتدون أقنعة لا تظهر منها سوى أعينهم وأنوفهم وأفواههم، مما يسلط الضوء على مدى الخوف الذي يشعرون به من الملاحقات والهجمات الانتقامية. يختار المخرج ومديرة التصوير ماريا سيكو اللقطات القريبة وهو يجري المقابلات مع أفراد أسر الضحايا. تحتل وجوههم الملثمة نصف الشاشة تقريبا بحيث لا يترك للمشاهد فرصة للتملص من النظر في أعين الضحايا، واختبار ما عانوه ويعانونه من ألم وخوف.
يحاول أقارب الضحايا مغالبة انفعالاتهم وهم يروون كيف فقدوا أحباءهم وأقاربهم بسبب أعمال القتل والاختفاء القسري التي تمارسها عصابات الجريمة المنظمة ضد أعضاء سابقين فيها، ومن يحاول أن يتحدى نفوذها.على النقيض من ذلك، يعتمد جونزاليس وسيكو على اللقطات المتوسطة في المقابلات مع المجرمين الذين ما يزال بعضهم أعضاء في عصابات الجريمة المنظمة.
يتيح لهم القناع حرية الحديث عن الجرائم التي ارتكبوها. لا يستطيع المخرج أن يمنع نفسه من سؤال أحدهم بفضول «كيف كان شعورك عندما أزهقت أول روح؟» ليجيبه الشاب بنظرة تحدّ ونبرة باردة: «شعرت بالقوة».
متى يأتي الندم؟
يلعب المخرج في فيلمه دور المحاور الذي يطرح الأسئلة، ورغم أنه يحاول أن يحافظ على نبرة هادئة خلال الحوارات، فإن مشاعره تغلبه في بعض الأحيان.
لا يستطيع المخرج أن يمنع الحدة من التسلل إلى نبراته وهو يسأل أحد المجرمين «متى يأتي الندم؟» ليجيبه الرجل بعد لحظة صمت: «عندما تصبح وحيدا».
لا تقابل الشخصيات في الفيلم بعضها بعضا. يختار المخرج ألا يواجه الضحايا بالقتلة والمجرمين، كيلا يبدو مفرطا في الميلودراما، ويكتفي بالتقاط مشاعر الضحايا عندما تقول واحدة منهم: «لن ننسى ولن نسامح».
في نهاية الفيلم، يعرض المخرج لقطات متتابعة وطويلة للوجوه الملثمة. لا ينبس أي منهم ببنت شفة. لكن الأقنعة التي باتت الآن مبللة تغني عن الكلام.