يتم رصد الفساد الإداري والمالي وغيره من حالات الظلم وانتهاك العدالة الإنسانية والمجتمعية، من عدد من الجهات الرسمية الوطنية المختلفة والمعنية بذلك، والتي تُوّجت مساعيها بإنشاء اللجنة العليا لمكافحة الفساد، إذ تتوزع جهودنا الوطنية في مكافحة الفساد بين قنوات مختلفة وجهات متعددة تتحمل مسؤوليته، وتختلف فيما بينها في آلية متابعة حالات الفساد المختلفة كما تتباين في الفترة الزمنية والمراحل التي تمر بها الحالات التي يتم رصدها أو يُبلغ عنها إلى أن تستكمل إجراءاتها من الحوكمة والمساءلة وصولا إلى إحقاق الحق وتنفيذ القانون العادل فيها بما يتوافق مع الأنظمة والتشريعات الموضوعة وتوجهات القيادة العليا.

إن الفساد والظلم اللذين يجدهما الأفراد بشرائحهم المختلفة في أي مجتمع، وما يتصل بهم من ظروف وحالات تختلف في شدتها وتعقدها بين الأفراد أنفسهم، وبين الجهات المعنية بمتابعة حالاتهم ومدى جديتها وكفاءتها الإدارية ومصداقيتها، فإن ذلك يتطلب التأسيس لمنصة «إلكترونية» وطنية موحدة لمكافحة الفساد، يتم خلالها استقبال كل البلاغات الفردية التي يتقدم بها الأفراد لحالات وظروف مختلفة، سواء عن جهة رسمية أو قطاع مسؤول تخاذل في تنفيذ القانون، أو في تفعيل الإجراءات الإدارية والمالية السليمة بحقه، بحيث تكون تلك المنصة مصنفة إلكترونيا بنظام يحوي جميع مؤسسات الدولة وقطاعاتها، إضافة إلى وجود تصنيفات إضافية مرنة تسمح للفرد بالتقدم عبرها عن حالات مختلفة أو متداخلة ولا يمكنه تصنيفها، وأن يقوم على تلك المنصة كادر وطني متكامل في مؤهلاته، وتمكنه الإداري والمهني والتقني، وبما يحقق الإشراف والمتابعة لجميع حالات الفساد الُمبلغ عنها، وبما انتهت إليه، بحيث تُغلق الحالة عند الحسم القانوني فيها وفق النظام والتشريعات الخاصة بها، وبذلك نستطيع توفير كثير من الجهود والأموال الضائعة في مكافحة الفساد، كما يمكننا جني ثمار جهودنا وتطلعاتنا الوطنية في مكافحة الفساد، والذي به نحصد الأمن الاجتماعي والتنمية المستدامة في كل القطاعات.

تتضمن منظومة مكافحة الفساد الرسمية وما يناظرها من جهات رقابية متعددة، هيئة الرقابة والتحقيق، وديوان المراقبة العامة، وديوان المظالم، وهيئة مكافحة الفساد «نزاهة»، وهيئة حقوق الإنسان، وغيرها من الهيئات والجهات الحكومية الرسمية المعنية بمكافحة الفساد، سواء كانت هيئة عليا، أو إدارة تابعة ضمن مؤسسة رسمية أو قطاع حكومي أو خاص معني بفض المنازعات وغيره، وإذ إن هناك كثيرا من الأفراد يجهلون الوسيلة والآلية التي يجب أن ينتهجونها عند رغبتهم في التبليغ عن فساد أو ظلم وقع عليهم، أو يجدونه في مؤسسة ما، كما إنهم يجهلون الجهة التي يجب أن تُقدم إليها الشكوى أو البلاغ، وما آلية المتابعة، وغير ذلك من الإجراءات المعقدة التي تحول أو تعوق وصول كثير من البلاغات إلى مسارها الصحيح، مما يتطلب مراقبة ومتابعة من جهة عليا تُشرف على كل الجهات المعنية باستقبال البلاغات والشكاوى بعد إحالتها إليها، لمتابعة الزمن الذي تأخذه المعاملة أو البلاغ المرفوع، وما الإجراء الذي تم اتخاذه فيها؟ وهل تم فيه تطبيق القانون والنظام والتوجهات العليا أم لا؟ وذلك يستدعي إتاحة الفرصة للفرد خلال تلك المنصة تقديم اعتراض على الإجراء المتبع الذي تجاهل حقه أو لم ينصفه أو تم تعطيله دون مبرر مقنع أو اعتبارات نظامية واضحة.

ومن المعروف أن تيسير إجراءات الوصول إلى أهدافنا المقصودة، يسهم إلى حد كبير في تحقيقها، وذلك ينطبق على كل مناحي الحياة والأعمال، وإذ إن القضاء على الفساد هدفنا المقصود الذي نسعى إلى تحقيقه بخطى حثيثة، بعد أن تجرعنا سمومه، وشهدنا آثاره المدمرة على التنمية ونتائجها، فلا بد أن تُجنّد له كل الوسائل والآليات الميسرة للوصول إليه أولا، ومعالجته والقضاء عليه ثانيا، وذلك مرهون بانتهاج السبيل الأمثل لمحاربته والقضاء عليه، والذي يتطلب بدوره السهولة والوضوح قدر الإمكان في الإجراءات المختزلة والابتعاد عن التعقيد والتداخل في مجريات المعاملة بحيث لا تعطل جهة ما، مسار أي نوع من المعاملات، كما إن وضوح المسؤوليات يمكّن كل جهة وكل فرد من أداء دوره وتحمل مسؤوليته بالشكل المأمول، والذي يتم ضبطه جميعه بالقانون والنظام، وبه يستحق الفرد أو الجهة المساءلة والحوكمة. وبذلك نستطيع أن نعمل معا كجهات رسمية وأفراد، في منظومة تتعاون على محاربة الفساد ورصده وحوكمته، أينما كان وحيثما أختبأ وكيفما تلون وخدع.

أما ما يجري حاليا من اختلاف الجهات الُمستقبِلة للشكاوى والدعاوى المختلفة من الأفراد، ودون متابعتها من جهة مرجعية خارجية عليا تُشرف على مسار إجراءات المعاملات وما تنتهي إليه، فإنه يسهم إلى حد كبير في المماطلة والتسيب والظلم من جهة، واستمرار الفساد وديمومته من جهة أخرى، وذلك لثقة الفاسدين والجهات المعنية بالفساد، بأنه لا توجد جهة خارجية نزيهة تتابع وتراقب وتحاسب على ما يجري في أروقة مؤسسات الدولة، وبين ردهات قطاعاتها المختلفة من فساد وظلم وانتهاك وتعدٍّ على توجهات الدولة العليا واللوائح النظامية فيها، ومما لا شك فيه أن ذلك ينعكس سلبا على جميع جهودنا التي تستهدف تحقيق إستراتيجيتنا الطموحة، أو تخدم بلورة رؤيتنا المستقبلية.

وحتى نكون أكثر شفافية ووضوحا، فإن المتابع لما يجري فعليا في الجهات المشار إليها والمسؤولة عن مكافحة الفساد، فإنها تستقبل المعاملات أو البلاغات لمن يُحسِن أو يستطيع الوصول إليهم، ثم تُغيّب كثيرا من القضايا أو تحفظ لديهم ضمن الملفات المهملة لأسباب مختلفة، سواء عَلِم بها المتظلم أو لم يعلم، وبذلك تموت القضايا ويفقد صاحب الشكوى أمله في العلاج والإصلاح، وبذلك يستمر الفساد، ويدوم انتهاك الحقوق، ويزداد الفاسدون إمعانا في غيّهم وطغيانهم دون حسيب أو رقيب.

ومما يجدر التنويه إليه، أن الدعوة إلى تأسيس منصة وطنية موحدة تستقبل كل أنواع الدعاوى والبلاغات والشكاوى من الأفراد عن الجهات الرسمية والقطاعات المختلفة في الدولة، ومنها تحال القضايا إلى الجهات المعنية بها، وما يستتبع ذلك من متابعة، لا يعني إلغاء دور تلك الجهات المكلفة بتلك المهمة رسميا، كنزاهة وحقوق الإنسان وديوان المظالم أو الانتقاص من مكانتها، وإنما الأمر يتطلب وجود جهة عليا مرجعية وسلطة تكون مظلة لتلك الجهات الرسمية جميعها، إضافة إلى مسؤوليتها عن الإشراف والرقابة والمتابعة لطبيعة مجريات المعاملات والدعاوى المقدمة لتلك الجهات، وما انتهت إليه، وما يتبع ذلك من إجراءات مطلوبة بحكم النظام، بما تتضمنه من مساءلة وحوكمة يتم تنفيذها على كل من يخالف النظام واللوائح الخاصة به، وبما يتعارض مع توجهات قيادتنا العليا ومساعيها في القضاء على الفساد، وما يتعلق به من مسائل مختلفة تسيء إلى منجزاتنا التنموية، وتحول دون تحقيقنا مصالحنا الوطنية، وبذلك نستطيع القضاء على الفساد بأذرعه الممتدة، وجذوره الضاربة في كل مكان.