(1)

لعلني أزعم بأن مأزقنا الحقيقي ومشكلتنا المصيرية وفجيعتنا الكبرى، يكمن في أشد مشاهد التفكير البشري خطورة، وهو غياب (الآلية) الذهنية الصحيحة في التفكير ورؤية الأشياء والكون والحياة، رغم كل ذلك الزخم المعلوماتي الذي يمتلكه بعض الأفراد، من معلمين وأساتذة أكاديميين ومثقفين وإعلاميين، ورغم القدر المقنع من امتلاك البعض الآخر معلومات وافرة، في علوم ومعارف شتى، والتي تفقد جميعها مصداقيتها وتأثيراتها وقدرتها على إنتاج أطياف ما، من حضارة معلقة على الشرفات الرائقة.. غياب تلك (الآلية) الذهنية، والتي تسمى بالمنهج «method» هو ذاته حضور كل أشكال الفقر المدقع في بنية ثقافية محلية، لا تشكل ثقافتها عملة يمكن صرفها في السوق الحضارية العالمية الكبرى.

إن تحقق هذه المنهجية (يمكن) الإنسان لدينا من الاستفادة من المعلومات المتنوعة التي يتلقاها في المدارس والجامعات والمساجد والوسائل (المعلوماتية) بتجلياتها المختلفة، ليشتغل بتحويلها -بعد ذلك- إلى معارف فاعلة ومنتجة وحقيقية، من أجل إنتاج تلك الحقول المعرفية المفعمة بالخصوبة، التي تسمو أغصان أشجارها بالإنسان إلى آفاق سامية، يتخطى من خلالها أرضه المحدودة الرازحة تحت وطأة خرافاته وأساطيره وأفكاره العشوائية المضطربة.

 

(2)

غياب ذلك المنهج العقلي يفسر لنا كثيرا من المشاهد في واقعنا المحلي.. كتلك الأحكام الجاهزة التي تطلق بين الحين والآخر عند تصنيف الشخصيات والكتب والخطابات الأدبية والفنية والثقافية. والمواقف المتواترة التي نظل ندور معها في حلقات مفرغة إلى ما لانهاية (كالتهنئة بالعام الميلادي الجديد مثلا)!

كما يفسر لنا ذلك الغياب (المرير) حقيقة الأقوال الساذجة التي تصدر من متعلمين ومعلمين ومثقفين وأكاديميين، والتي تزخر برؤى انطباعية وانفعالية بالغة! وبالتأكيد فإن غياب الآلية الصحيحة لعمل العقل يفسر لنا غياب إنسان الحضارة (الإنسان الحديث) الذي كان وجودا فاعلا في كل حضارات الشعوب شرقا وغربا، والذي تتجلى أبرز سماته في:

(الانفتاح على تجارب الآخرين - الاستقلال الذهني عن سلطة الرموز البشرية.. دينية أو تعليمية أو ثقافية - الابتعاد عن أسر الهويات المزعومة - الثقة بقدرة الذات المنفردة على اتخاذ دور فاعل في الشؤون المدنية والمجتمعية والسياسات المحلية - الإيمان بأهمية العلم وانـحسار ذهنية الخرافة والأسطورة والقدرية، المفرغة من اتخاذ الأسباب الدنيوية المشروعة..).

إن غياب إنسان الحضارة هذا.. يعد خسارة فادحة، يتجرع مرارتها مجتمعنا في كل حين وفضاء.. كفداحة خطأ العقول المعطلة بمعلوماتها!



 (3)

ووفقا لذلك.. فإن عمل (الابستمولوجي) هو الكشف عن تلك المنهجية التي أفضت إلى إنتاج كل تلك الثقافات والمعارف المؤثرة في خطاب المجتمعات، وليس فقط رصد المعلومات (الأمبريقية) التي أنتجتها.

أما إذا كان إنسان المعرفة منشغلا بالأفكار ذات الصبغة الأيديولوجية أو الفلسفية فإن الابستمولوجيا تتحول إلى أنطولوجيا لا تتحقق معها تلك السعة والشمولية والموضوعية التي يتميز بها فكر الإنسان المعرفي دائما!



 (4)

هل فهمنا الآن.. الفقر المعرفي التام الذي يعيشه كثير من شبابنا المتعلم، وهم يجهلون الغايات الكبرى التي تمحورت حولها العلوم والمعارف التي يدرسها؟ كما يجهلون علاقة تلك العلوم والمعارف بالمنظومة المعرفية الكلية، ويكون من الصعب عليهم (دوما) الخروج برؤية جديدة،أو صياغة مقاربة بحثية بسيطة.. تخيلوا طالبا جامعيا ينقل حديث أستاذه في إحدى المواد الدراسية، ويحاول أن يرقم العلاقات التي تربط بين جزئيات الموضوع، فيكتب بالترتيب (1....أ...أولا).. مما يدل على غياب حقيقي تام في وعي ذلك الطالب لأحد المشاهد الأولية (البسيطة) في المنهج العلمي، أيا كان العلم الذي يدرسه، أو الجنس الأدبي الذي يحاوره!

هل فهمنا الآن.. السبب الذي يجعل أكاديميا ما في جامعاتنا، يتفوه دائما بخطابات انفعالية عاطفية، أسيرة للذهنية الشعبية أو القبائلية أو المناطقية، وهو لا يكاد يفرق بين المعلومة و(ثقافتها/ آلية إنتاجها)، وقد يحرج ويتوتر وهو لا يدري كيف يطرح خطاب (ديكارت) عندما يحاضر عن المناهج العلمية، أو كيف يخرج من مأزق (هيجل) وهو يحاضر عن فلسفة الجمال، ومثل هاتين الشخصيتين في الذهنية الجمعية لذلك الأكاديمي هم علمانيون ومفسدون..!

هل فهمنا الآن لماذا يرفض دارس للأدب وفنونه بودلير ورامبو أو أدونيس ومحمود درويش، أو حتى شاعرنا المحلي الكبير محمد الثبيتي.. لأن في نصوصهم -من وجهة هذا الدارس الأدبي- خروجا عن المألوف في الذهنية الكلية، مضمونا وصياغة، ومفردات مفعمة بشاعرية الخيال والرمز؟! بالتأكيد فإن سبب ذلك -أيضا- غياب (المنهج) الخالص في دراسة النص الأدبي الذي يحتفي بالقيمة الفنية للصياغة، كما يحتفي بالمضامين، شريطة أن تطرح رؤى جديدة للكون والإنسان والحياة، لكأنها تعيد إنتاج الظواهر والمشاهد في الحياة بمضمون جديد (لا يمس بالتأكيد ثوابت الدين العظيم)، ولكن ما يختلج في ذلك الوعي الغائب أشياء وانفعالات لا ترتبط بشكل أو بآخر بذلك (المنهج) المنشود!

وهل فهمنا الآن -كذلك- السر الذي يكمن خلف رفض بعضنا عمل المرأة في مجالاتها الأنثوية؟ والحكم على كثير من مثقفينا بالعلمانية والليبرالية، لأنهم استخدموا مناهج غربية عند دراساتهم للخطابات باختلاف أشكالها؟!



 (5)

العقول المعطلة لا يمكن أن تنتج أفكارا إيجابية.. منتجة.. صحيحة، مهما اكتسبت من علوم ومعلومات.. فخلل عمل (البوصلة) دائما يقود إلى الضياع السحيق في متاهات الأرض العتيقة.



 (6)

من يتعطل ويفقد الفكرة التي يعرف من خلالها كيف يشرع (مظلته)، لا يمكن أن يتقي أشعة الشمس الحارقة أو ثلجا من برد ومطر.. ومن (يتعطل) ويضيع (مفاتيحه) لا يمكن أن يشرع نوافذ منزله أو يرحل بعيدا عن المكان الذي تقبع فيه مركبته! ومن (يتعطل) ويهمل معرفة (الآلية) التي يفكر بها، يعطل مع أقرانه حركة الحضارة التي خلق الله الإنسان لتحقيقها.. عمارة للأرض وازدهارها!



 (7)

ليت الرجل الذي قال لنا ذات (عقل): «أنا أفكر.. إذا أنا موجود» أكمل مقولته الخالدة بقول:

«قبل أن تفكر.. اعرف كيف تفكر.. حتى يجعلك فكرك موجودا لتردد: إذا أنا م.و.ج.و.د»!