في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 1992 ميلادية بين الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب ومنافسه بيل كلينتون الذي أصبح لاحقا رئيسا للولايات المتحدة، استخدم معسكرا المتنافسين مفردتين كشعار لحملتيهما، وهي الطبيعة التي تتميز بها الانتخابات الأميركية تاريخيا لإقناع جماهير الناخبين بتميز ومعقولية برنامجي المتنافسين، باختيار كلمة أو جملة تختصر مضمون حملة المترشح.

فقد استخدمت حملة الرئيس بوش الأب التي كانت تهدف إلى ولاية ثانية مصطلح (الثقة Trust)، بينما رفعت حملة القادم الجديد كلينتون مصطلح (التغيير Change)، وللمصطلحين سحرهما وجاذبيتهما، لكن بوش خسر الرهان والانتخابات تلك السنة، وظهر جليا أن المجتمع الأميركي يعبر عن رؤيته بالانـحياز إلى سحر التغيير ومصطلحه الذي رفعه كلينتون مقابل الثقة التي عرضها بوش الأب دون تطوير لمستقبلها، وهذا يعني بجلاء أن الثقة بلا تغيير تفقد الكثير من بريقها وثقلها.

والثقة، هي النقطة الفارقة التي تتكئ عليها الصحافة بكافة أشكالها، سواء التقليدية منها أو تلك التي تستخدم التكنولوجيا الهائلة السرعة بتطبيقاتها المختلفة في الوقت الراهن، لكن هذه الصخرة فقدت قوتها تقريبا بشكل لافت مع انهيار المهنية الذي نشاهده من خلال ما تقدمه وسائل وشبكات التواصل الاجتماعي الحديثة دون استثناء، وبعض الصحافة التقليدية، وأظن أن المتلقي على الرغم من تحول شريحة عريضة منه إلى متابعة الصحافة الرقمية، إلا أنه يبحث عن موقع تلك الصخرة في كل مرة يتلقى فيها منشورا إخباريا أو معلومة ثقافية أو اقتصادية أو غيرها، وهو -من وجهة نظري- هدف يجب أن تعمل عليه الصحافة التقليدية، وتؤكد عليه مجددا بطريقة مختلفة لعودتها مرة أخرى إلى مضمار السباق الإعلامي، من خلال تقديم نفسها في ثوب التقنية الحديثة مع الاحتفاظ والتأكيد على مصداقية المحتوى كعادتها التي طالما دأبت عليها.

إذ كشف تقرير صدر في العام الماضي 2017 عن معهد رويترز لدراسة الصحافة الرقمية، أن نسبة 40% من المستهلكين يرون أن المؤسسات الإعلامية التقليدية القائمة في أميركا تميز بين الواقع والخيال، فيما انخفضت النسبة لشبكات التواصل الاجتماعي لتصل إلى 24%. وهي نسب يجب أن تكون مقلقة جدا لكلا الطرفين، لا مصدر ثقة للصحافة التقليدية كما تبدو عليه النتيجة على أية حال، إذ تظهر على الجانب الآخر فقدها ثقة 60% من المتلقين في الجانب التقليدي للصحافة، وخلص الاستطلاع الذي شمل نحو 70.000 مستخدم للإنترنت في 36 بلدا إلى أن 29% منهم يتجنبون قراءة الأخبار بجميع أنواعها.

نقطة أخرى مخيفة تطرح نفسها بقوة تتركز حول تفضيل المعلنين لمعسكر الناشرين الإلكترونيين على الرغم من إدراكهم ومعرفتهم حجم المعلومات والأخبار المزيفة التي تنشرها تلك المواقع والبرامج الرقمية!

فالهدف الذي تبحث عنه في الأساس هو العرض في أوساط قواعد اجتماعية عريضة، وهو ما يتحقق عند تلك المواقع والبرامج بسبب سهولة وصولها للمتلقي بغض النظر عن جودة المحتوى! لكن تزايد حجم الإشاعة والأكاذيب المفرط الذي يبثه كثير من المستخدمين في شبكات التواصل الاجتماعي قد ينعكس سلبا وبشكل مخيف جدا على مستقبلها، ومع تزايد برامج نشر الأخبار المزيفة الإلكترونية التي تعمل بشكل آلي، ازداد الغموض على المتلقي، وهو ما قد يتسبب في حدوث تغيير في مراكز السباق الصحفي على المستوى المهني مفهوما وتطبيقا، وهو السباق الذي خسرت فيه شبكات ومواقع التواصل بامتياز حتى الآن، فالمتلقي سيصل حتما إلى مرحلة من الملل والتذمر قد تحرضه على مقاطعة تلك الشبكات ليبحث عما يطمئنه أكثر مما يربكه. وهي فرصة قد تبدو سانـحة للصحافة التقليدية لاستعادة بعض بريق مهنية الصحافة السابق الذي تفردت به سابقا -ليس لأنها الأفضل بل لأنها كانت الأوحد-، وعطفا على ذلك فإنه يجب على الصحافة التقليدية رؤية الشارع المتلقي من زاوية التغيير الذي يجب عليه هو الآخر أن يكون منطلقا من هموم الشارع وليس ردات فعله، بمعنى أن يتم إشراك المتلقين في طرح ما يحتاجون إليه بشكل حقيقي، وليس تناول ما يدغدغ مشاعرهم لحظيا، وليكون مسؤولا بشكل ما عما تتناوله الصحافة التقليدية -أي تحويل المتلقي إلى صحفي تحت شروط مصداقية النشر-، فالحقيقة هي مقابل ممتاز للثقة، وإذا ما تحقق المعياران (الحقيقة – الثقة) عبر استقطاب الأخبار المثيرة، وتفرد التحقيق الصحفي النوعي، واستخدام التقنية الحديثة بطريقة فريدة، فإنني أجزم أن الصحافة التقليدية ستتغلب على مشكلاتها التي صنعتها شبكات التواصل الاجتماعي، وستنهض من جديد كما نهضت وصمدت أمام التحديات السابقة التي وضعتها في طريقها الإذاعة والتلفزيون ذات زمن، وقد يتحقق ذلك عبر إعادة صياغة مفهوم الصحافة بما يتواءم مع التغيير الذي تفرضه وسائل التواصل الحديثة ذاتها، أي صنع منصات موازية بروح ورؤية جديدة مقنعة تعتمد على تقديم النوعية والمصداقية، وتحقق هدف التغيير الذي عجزت عن جمعه شبكات التواصل الاجتماعي وبرامجها الحديثة، وهي قادرة على فعل ذلك نتيجة خبراتها التي تمتد لعقود كثيرة، وتمتعها بوجود كوادر مدربة بشكل جيد يمكن تطوير أدواتها، أكثر من منافساتها الجديدة التي تعتمد على خيارات المشاركة العشوائية بنسبة عالية ومبالغ فيها جدا، وهي نقطة ضعفها التي تقصم ظهرها بلا رحمة.