ازدهرت خلال العقدين الأخيرين، وعلى نحو خاص في القارة الأوروبية، الصحافة الورقية المجانية، وغالبها يومية، واتسع نطاق توزيعها ليصل إلى 40 مليون نسخة يوميا، وشكلت هذه النوعية من الصحف في بعض الدول الأوروبية المنافس الكبير والرئيس للصحافة الورقية بمعناها التقليدي القائم على بيع الصحف للجمهور بمقابل مادي.

ويتم توزيع الصحف الورقية المجانية على المنازل وعلى الطرقات وأماكن التجمعات العامة وصناديق البريد بالصحف المجانية، مما رفع نطاق توزيعها في دولة مثل الدنمارك إلى أكثر من مليوني نسخة يوميا.

ووفقا لتقديرات خدمة نيويورك تايمز الأميركية، فإن نجاح الصحف المجانية دفع العديد من الصحف الورقية التقليدية إلى الدخول في ساحة إصدار الصحف المجانية، باعتبارها صحفا فرعية ومكملة للصحافة الأساسية مدفوعة القيمة حتى تحافظ على نوعية من القراء ونوعية من الإيرادات الإعلانية، وحتى لا تنسحب من المنافسة بشكل كامل.

وفي النموذج الإسرائيلي، صدرت أول صحيفة يومية مجانية إسرائيلية هي «يسرائيلي» (تعني إسرائيليّ)، مطلع عام 2006 عن مجموعة «هيرش ميديا». وصدرت في يوليو 2007، صحيفة «يسرائيل هيوم» (إسرائيل اليوم)، اليومية المجانية، ويمتلك هذه الصحيفة الملياردير اليهودي الأميركي شيلدون أديلسون.

وهناك صحيفة إسرائيلية مجانية يومية ثالثة صدرت في أغسطس 2007. هي «مترو يسرائيل»، ويمتلكها رجلا الأعمال إيلي عزور، وهو أحد أصحاب «تشارلتون» و«جيروزاليم بوست» ودودي فايسمان، أحد أصحاب شبكة المحلات التجارية «هريبواع هكاحول» (المربع الأزرق) ومحطات الوقود «دور ألون».

وإلى جانب الصحف الورقية المجانية هناك الصحف الورقية التقليدية مدفوعة الثمن، حيث تعد صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصحيفة الأولى من دون منافس في إسرائيل، وأن أكثر من 60 % من قراء الصحف يقرؤونها بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعدها صحيفة «معاريف» في حدود 24 %، أما الصحيفة الثالثة فهي صحيفة «هآرتس» ونسبة قرائها هي 8% أو أكثر بقليل.

وعلى الرغم من تلاشي الفوارق السياسية بين «يديعوت أحرونوت» و«معاريف»، إلا أن هناك انطباعا سائدا في إسرائيل بأن صحيفة «يديعوت أحرونوت» تعبّر عن موقف الوسط، و«معاريف» تعبر عن موقف اليمين، فيما تعبر «هآرتس» عن موقف اليسار الصهيوني.

ويقدم نجاح الصحافة المجانية خلال السنوات الماضية دروسا اقتصادية ومالية مفيدة للصحافة الورقية التقليدية التي يتم توزيعها بمقابل مادي عند الشراء، ترتبط بالإمكانات الكبيرة لترشيد وتخفيض النفقات غير الضرورية بمفهوم مهني وصحفي متحضر يركز على الحفاظ على جميع النفقات اللازمة لرفع المستوى التحريري وضمان تميزه وارتفاع درجة جودته بشكل متواصل ومستمر، لكنه يستهدف في نفس الوقت التركيز على تخفيض النفقات غير الضرورية الطباعية والإدارية، ويبحث عن أشكال تنظيمية حديثة وفعالة تقلل المصاريف وترفع العائد من الإنفاق بكل صوره وأشكاله.

ورغم ذلك ثمة أزمة تعانيها الصحافة المجانية أفضت إلى توقف صدور العشرات منها في أوروبا على خلفية: المنافسة الشرسة وارتفاع تكاليف التوزيع للمنازل وتراجع إيرادات الإعلانات. ولجأت غالبية هذه الصحف إلى تخفيض عدد العاملين بشكل واضح للسيطرة على التكاليف وموازنتها بالإيرادات، وسعى بعضها لضمان التفوق والسيطرة من خلال عقود توزيع احتكارية تضمن للصحيفة عدم المنافسة في بعض المناطق العامة.

ويضاف إلى ما سبق، الصدام المحتدم بين الصحافة الورقية التقليدية مدفوعة القيمة والصحافة المجانية غير مدفوعة القيمة، والذي يشكل تحديات لا تقتصر فقط على مجانية التوزيع في الأكشاك والطرقات، بل يصل إلى حدود التوصيل المجاني للمنازل، بمعنى توفير الاشتراك المجاني للقارئ، خاصة أن عدداً من هذه الصحف يقدم خدمات صحفية إضافة إلى الخدمة الإعلانية الأساسية، وهي خدمات صحفية إخبارية أساسا، ولا تشغل المساحة الكبيرة، ولكنها يمكن أن تغني شريحة من القراء عن الصحف الورقية التقليدية، وهو ما يفسر تراجع التوزيع بالنسبة لها في بعض الدول الأوروبية التي شهدت تكثيفا وترويجا للصحافة المجانية.

وفي ضوء ارتفاع تكاليف التحرير الصحفي الجيد والمتميز ومتطلباته المالية الكبيرة في صورة نفقات ثابتة ونفقات جارية، فإن تنازل الصحافة المجانية عن 15 % إلى 20 % من إيراداتها الإجمالية متمثلة في إيرادات التوزيع نتيجة لعدم اهتمامها بالمادة الصحفية، وعدم الإنفاق على توفيرها وتقديمها للقارئ بالمستويات والمعدلات العالية والمرتفعة في ظل غلبة المادة الإعلانية وسطوتها، فإن هذه النوعية من الصحف تحقق خفضا في نفقاتها وتكاليف إصدارها بما يزيد على قيمة إيرادات التوزيع، بحكم أن تكلفة التحرير الصحفي المتميز ترتفع، والضرورة عن المحقق من إيرادات البيع بمقابل مادي في حال الصحف الورقية التقليدية، ويعني ذلك أن قرار البيع المجاني في البداية والنهاية يعكس حسابات مالية واقتصادية لنوعية جديدة ومستحدثة من الصحافة قائمة على مفهوم جديد يركز في الأساس على المادة الإعلانية التي تحتل الواجهة والأولوية الأولى، وتتراجع معها المادة الصحفية إلى المرتبة الثانية والثالثة، وهو ما يعني أن هناك صناعة جديدة أعيد ترتيب أولوياتها، وأعيد ترتيب مصادر دخلها وإيراداتها، والأهم أعيد تحديد دوائر القراء المستهدفة ونوعية وطبيعة التأثير، وهي بذلك مطبوعة تستهدف رسالة اتصال إعلانية تركز على الترويج الإعلاني والدعائي لسلع وخدمات، وليس الترويج للأفكار والآراء والخدمات الصحفية بمختلف أنواعها وأشكالها التي تندرج تحت صناعة الرأي، أو صحافة المواطن والوطن في آن معا.