اليوم نجد أن التنوع الثقافي أصبح مصدرا هاما في مجال هوية الإنسان، وهنا نعني الإنسان كمواطن عالمي يسكن الأرض التي أصبحت قرية صغيرة بفضل التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، نعم كل مجتمع هو نتاج ثقافته من لغة ودين وفلسفة وآداب وعادات وتقاليد ومأثورات شعبية وأعراف وفنون وأنظمة حياة إدارية واقتصادية، وكما توجد اختلافات يوجد تشابه، وإن وجد تصادم فإنه يعود فقط إلى انغلاق الفرد على نفسه داخل دائرة، مركزا على نفسه، متجاهلا العالم من حوله، وأحيانا إصراره على دمغ الآخر حسب مفاهيم ثقافته، ورفض الاعتراف أو الانفتاح للتقرب والفهم، وإن بقينا نعيش في بروجنا العالية البالية فسنجد أنفسنا يوما وقد هدت هذه البروج على رؤوسنا، ليس لأنها قديمة ومهترئة فقط، بل لأن الأرض من تحتها تجرف وتتعرض لهزات قوية، ونحن نعيش وكأن ما يجري هو تقلبات طبيعة لا أكثر ولا أقل! بينما هو في حقيقة الأمر سلسلة من العواصف التي ما نكاد ننتهي من التعامل مع الأولى حتى تباشرنا التالية! الإنكار والرفض لا يلغيان الآخر، بغض النظر إن كنا نتشابه أو نختلف، والشيء نفسه بالنسبة للتصادم والعداء، فالحضارة ليست تصادما كما قدمها البعض ويريد أن يفرضها على العالم، بل هي تعايش وتعاون، فبالرغم من تنوع الثقافات يستطيع كل منها الاحتفاظ بأصالتها وهويتها، إن أدركت تماما كيفية التحكم وإدارة آليات التغيير والانفتاح على الثقافات الأخرى، ثم إنه ليست هناك ثقافات ثابتة، فكل الثقافات في حالة تغير متواصل وتطور بطريقة أو بأخرى، والمجتمع الحي هو الذي يتغير مع تطورات الحياة، والمجتمع الواعي هو الذي لا يخسر خلال كل ذلك هويته وأصالته.

وكما للدول ثقافات، فللمجتمعات المحلية داخل هذه الدول أيضا ثقافات مختلفة، قد تتشابه بالشكل العام، ولكن تبقى هنالك تفاصيل معينة تظهر وتحدد المعالم الثقافية لهذه المنطقة أو تلك، ومن المؤسف حقا أن الكثير من الناس، وبالرغم من الانفتاح التام على العالم الذي أتاحته الشبكة العنكبوتية بكل وسائلها، نجد أنهم لا يعرفون شيئا عن شعوب العالم، بل حتى إن البعض ما زال يجهل حتى ثقافات المجتمعات المحلية في بلده، أو يعتبر ما يعرفه من الظاهر أو من خلال الصور النمطية التي التقطها ذهنه من هنا وهناك، كافيا لإصدار الأحكام بالاقتراب، أو التنافر، أو التعالي والاستهزاء والتقليل من شأن أصحاب تلك الثقافات!

مثلا لنأخذ ثقافة التعامل مع المرأة؛ هنالك من يعتبر جسدها رمز العرض والشرف، بل هو رجولة أهل بيتها وعشيرتها، وهناك ثقافات ترى أن شرف المرء ورجولته في مواقفه وأفعاله، وفي حين يعتبر قتل المرأة، سواء كانت بريئة أم لا، فعل رد شرف، يستقبل فاعله كبطل مغوار عند البعض، نجد في مجتمعات أخرى يعتبر جريمة، أما «زواج الفصيلة» بينما يعتبر عند مجتمع تعديا على حقوق المرأة كإنسان، نجد أنه في مجتمع آخر يعتبر وسيلة لحقن الدماء، بالمناسبة هذا ليس من التقاليد التي اختفت، بل ما زالت، حتى إنها ظهرت بشكل جديد مثلا كوسيلة لإسقاط دين عن الأب أو الأخ، وهنالك مجتمعات ما زالت تزوج أرملة الأخ لأخيه تحت مبدأ الإبقاء على أبناء المتوفى، والحفاظ عليهم في ظل الأسرة، وغيره مثل تزويج القاصرات التي يرون أنه ستر وحفظ للابنة، ولننظر إلى بعض كروت دعوات الزواج، فنجد من يحذف اسم العروس ليضع «كريمة» فلان، وفي حالة إعلان الوفاة تقرأ أحيانا «أم أو زوجة أو شقيقة» فلان، بينما في مجتمع آخر، أو ذات المجتمع أحيانا، تجد اسم الأنثى يذكر كاملا، الذي أريد أن أوضحه هنا أنه قد يستهجن البعض هذه العادات التي تعتبر من ثقافة منطقة أو أخرى، أو قد لا يرى فيها أي شيء مخالف، لكن إن لم تفهم الأسباب وطرق تطورها ومصدرها فلن تستطيع التعامل معها، لا يمكنك أن تعادي أو تفرض التغيير، فالآخر سوف يستغرب اعتراضك لأنك في الأساس لم تفهمه ولم يفهمك!

وهنالك ثقافة الرموز، فمثلا تعتبر البومة نذير شؤم عند البعض، بينما هي حكمة عند ثقافة أخرى، وشدة البياض يمثل بالثلج عند ثقافة، وبالقطن عند ثقافة أخرى، ومفهوم استقلالية الفرد يختلف أيضا؛ يخرج الأبناء إلى الحياة مبكرا، والاعتماد على أنفسهم، بينما عند مجتمعات أخرى يعتبر عيبا، ويستنكر إن حدث وطالب الشاب بأن يستقل في حياته وهو ما زال عازبا، ويستنكر أكثر إن حدث وطالبت الفتاة بذلك، هنالك ثقافات منفتحة ومتساهلة في عدد من المواضيع التي تناقشها الأجيال، بينما أخرى تعتبرها تعديا على حدود الأدب والاحترام، وبينما يعتبر مركز ونسب وأحيانا سن الفرد معيارا للحكم على شخصه، ينظر مجتمع آخر إلى منجزاته وقدراته ومهاراته، فينظر إلى من يقدم المساعدة في التوظيف أو ما شابه كدليل على الانتماء والترابط الأسري، بينما يعتبر فضيحة تستدعي المحاكمة والمحاسبة في مجتمع آخر.

وإضافة إلى المفاهيم والتعبيرات اللغوية الخاصة بكل ثقافة، هنالك أيضا لغة الجسد التي قد يؤدي عدم فهمها إلى اتخاذ إجراءات أو أحكام خاطئة تصل إلى حد العداء، أو قد تنتج عنها الحيرة في التصرف إزاء الموقف؛ لأنه يصادف أن تكون إحدى الإشارات شائعة في ثقافة معينة ولها تفسير واضح، لكن لا يكون لها معنى في ثقافة أخرى، أو قد يكون لها معنى مختلف تماماً، لنأخذ مثلا التحديق بالعين؛ في المجتمع الياباني يعتبرها ضرورة للتواصل عند الحديث، وفي مجتمع آخر قد يعتبرها وقاحة، خاصة عند تواصل المرأة مع الرجل، بينما نجد أن هز الأكتاف شائع عند الكثير من الثقافات كدلالة على الحيرة، أو ربما عدم الاهتمام، وقس على ذلك الكثير من التعبيرات الجسدية، مثل تشكيلات أصابع اليد، ورفع الصوت، أو خفضه، أما بالنسبة للأقوال المأثورة فقد تختلف الصياغة، لكن تجد أن المضمون متشابه، مثلا في الإنجليزية «Add insult to injury»: زاد الطين بلّة، وفي اليابانية «kumìfùjiàn»، يقابله في العربية: في الوجه مرايا وفي القفا سكين، وفي الفرنسية «Mieuxvautprévenir que»guérir, Mieuxvautprévenir que guérir، في العربية درهم وقاية خير من قنطار علاج، وإن بحثنا في هذا المجال فسنجد الكثير والكثير من التشابهات، لماذا؟ لأن الخبرات الإنسانية متشابهة رغم اختلاف القوالب التي تشكلت داخلها.

لقد خلق الله الإنسان ومنه تشكلت الشعوب والثقافات، لكن يبقى الإنسان إنسانا باختلاف الملامح والألوان والألسن والمفاهيم، حتى البلد الواحد قد يختلف في العادات والتقاليد والقيم، المهم ألا ننغلق على أنفسنا أو نعادي كل ما نجهله أو لا نفهمه، ما نجهله يمكن أن نتعلمه، وما لا نفهمه يمكن أن نستفسر عنه لنفهمه، نحن أمة صاحبة رسالة، ولا يمكن أن تبلغ أهدافها إلا عبر المعرفة والتشارك والتفاهم مع الشعوب وثقافاتها المختلفة، إن نظرنا إليها كإثراء دون أن نتخلى عن الأصل والهوية نكون أقوياء، وإن نظرنا إليها كغزو نكون ضعفاء لا نعرف كيف نغربل ونستثمر ونتكيف.