بعد أقل من شهر من قدومي إلى الصين، أخذني أحد الزملاء الصينيين -ترحيبا بي- إلى مزرعة جدته البعيدة عن موقع جامعتنا. استغرقنا ساعتين بالقطار حتى نصل إلى مزرعة جدته التي تقع على طرف النهر مباشرة، وأشجارها البامبو الصينية تعانق عنان السماء. لا أبالغ إن قلت إنني لا أستطيع أن أرى نهاية علوها السامق، أشجار غاية في الطول، كانت جدته تتجول معنا، وأشعر أنها فخورة بمزرعتها، ولا يقل زميلي فخرا بمزرعة جدته، ولكني في ذلك الوقت لم أكن أرى في مزرعة البامبو ما يدعو إلى الفخر، اعتقادا مني أن زراعة هذا النوع من الشجر لا يحتاج إلى كثير من العناء الذي نتكبده نحن أبناء الصحراء في زارعة النخل، أو المشقة التي التي يتكبدها جدي في زراعة القمح في إحدى قرى جازان، ثم إن مزرعتهم تقع على ضفة النهر، فلا عناء في الموارد المائية مثل ما نعانيه نحن في حفر الآبار لجلب المياه الجوفية الشحيحة، والتي نفدت مخزوناتها في غالب المناطق الزراعية في السعودية، خاصة في المنطقة الوسطى ونجران في الجنوب.

قبل يومين فقط، علمت لماذا كان صديقي وجدته يشعران بالفخر بأشجار البامبو.

قامت جدة صديقي بحراثة الأرض وزرعت بذورها، وكل يوم خلال عام كامل تهتم بسقايتها وتسميدها، ورغم ذلك لم يظهر أي أثر للزرع على سطح الأرض، بقيت المنطقة التي حرثتها وبذرت فيها البذور مثل ما هي دون أي تغيير، ولكنها استمرت تسقيها للعام الثاني، وأيضا لم يتغير شيء، وبقيت مزرعتها وكأنها أرض جرداء!.

في العام الثالث فعلت جدة صديقي ما فعلته في العامين الأول والثاني، دون أي كلل أو تعب أو إحباط أو فتور، ولكن أيضا ما زالت الأرض جرداء دون أي بوادر لظهور ثمار جهود السنوات الثلاث من العناية اليومية والاهتمام.

في العام الرابع، ما زالت هذه السيدة الكبيرة في السن تستيقظ كل صباح وتفعل ما فعلته في السنوات الثلاث الماضية، تسقي وتضع السماد بحماس وكأنه يومها الأول في المزرعة، وفي نهاية العام الرابع وبداية العام الخامس، استيقظت جدة صديقي لتجد بذور البامبو التي جاهدت فيها 4 سنوات ارتفعت سيقانها مسافة 90 سم في ليلة واحدة فقط، وهو معدل نمو يومي معروف لبعض أنواع أشجار البامبو.

أستطيع أن أرى تلك الفرحة التي ارتسمت في عينيها، فرحة أن ترى نتاج عمل 4 سنوات يظهر لك في ليلة واحدة.

في اليوم الثاني، ارتفعت السيقان إلى 90 سم أخرى، واستمرت في الارتفاع دون توقف حتى وصلت إلى 30 مترا خلال 6 أسابيع فقط.

لم أكن أعلم ما يدعو إلى فخرهما بمزرعة البامبو الصينية حتى قبل يومين، عندما كنت أتابع على «سناب شات» حساب الدكتور علاء ناجي، زميلنا السابق في كتابة الرأي هنا في صحيفة الوطن، والذي شبه مشواره ومغامراته لإكمال دراساته العليا في مجال القانون بشجرة البامبو الصينية.

توقفت كثيرا عند هذا التشبيه، نحن الطلاب المبتعثون في جميع المراحل والتخصصات، طالما شعرنا أن جهدنا الدراسي لا نتائج له، وأن المشوار الدراسي ما زال طويلا، وطالما وصلتنا كثير من الرسائل السلبية والمحبطة التي يقولها لنا البعض، ماذا ستجني من هذه الشهادة، ستعود وتبحث عن عمل ولن تجد، وستصبح مجرد رقم مضاف في إحصاءات البطالة، وطالما شعرنا أن أقراننا سبقونا في الترقيات الوظيفية، ونحن ما زلنا على مقاعد الدراسة ندرس دون أن نرى أي نتائج لكل جهودنا التي نبذلها في الدراسة، ولكن الحياة علّمتني فعلا أن الدراسة وطلب العلم والصبر عليه، تشبه تماما زراعة شجرة البامبو الصينية التي لا تظهر لك نتائج اهتمامك بها إلا بعد سنوات من الجهد والصبر والمثابرة، لأن بذورها تقوم في السنوات الأربع الأولى بضرب جذورها الليفية المتينة في الأرض، تماما كالمكافحين في مجال الدراسة، سواء من المبتعثين أو في الجامعات السعودية، أو المنتسبين إلى التعليم، وهم على رأس العمل يعملون على تأسيس القواعد التي ستكون المنصة المتينة التي يبنون عليها مستقبلهم.

كل يوم تذهب فيه إلى الجامعة أو المعهد، يُعدّ مواصلة لاهتمامك لأساس القواعد التي ستكون متينة لحمل آفاقك وتطلعاتك وطموحاتك، وكلما ازدادت جهودك في بناء هذه القاعدة، كلما استطعت أن تصعد إلى الأعلى بثقة، فهي لن تخذلك في نهاية المشوار وستحلّق بك إلى الأعلى كشجرة بامبو شامخة حد السماء.