حين استلم «عمر بن الخطاب» الأمر من بعد «أبي بكر الصديق» رضي الله عنهما لم يستشر فلاسفة ومفكرين ولا خبراء محللين ليوضحوا له الفروقات اللغوية بين مصطلحي الخلافة والإمارة وطبيعة عمل كل منهما، لم يراجع كتباً وبحوثاً ودراسات ليستنبط أن لقب «خليفة رسول الله» لا ينطبق عليه أبداً، إنما هو خليفة أبي بكر، وكان الصحابة فعلاً ينادونه بـ«خليفة خليفة رسول الله» إلا أنه استثقل الأمر، واستشار الصحابة في المسألة ليشيروا عليه بأن يتخذ لقب «أمير المؤمنين»، فأخذ به، وتبعه في هذا الأخذ كل من «عثمان وعلي»، حسناً، بنفس البساطة كان من المفترض هنا أن يموت مصطلح خليفة، وتموت الخلافة بموت «أبي بكر الصديق» لتتحول المسألة برمتها إلى إمارة، أن تتحول إلى مسألة دنيوية سياسية وليست إلهية مقدسة.

إلا أن ما حصل في حقيقة الأمر أنه جرت عملية تمطيط مبالغ فيه لمصطلح «خليفة» تمطيطاً غيَّر تماماً ذلك المعنى البسيط الذي فهمه الفاروق، أصبحت خلافة رسول الله مجرد واجهة فقط تخفي حقيقة أن الخليفة بات خليفة الله مباشرة، وظله الوافر، والوكيل الحصري عنه في تسيير دنيا ودين الخلق، الذي حصل أن التراث ألبس «عمر وعثمان وعلي» ثوباً رفضوا هم ارتداءه، قالوا إنما نحن أمراء، وقلنا بل خلفاء ولو بالإكراه! وليت الأمر توقف عندهم - رضي الله عنهم- لكنه امتد واتسع حتى شمل كل من جاء بعدهم بدءًا من معاوية، وصولاً إلى «عبدالمجيد الثاني» المتحالف بالأمس القريب مع النازية الألمانية! 100 حاكم كلهم خلفاء الله وأولياؤه وظله الوافر على الأرض، إن غضِب أي منهم غضب الله لغضبه، وإن ابتسم أمطرت السماء، فأين الخلل؟

في عام 1979 وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، خرج الخميني بنظرية «ولاية الفقيه» التي تنص على جواز تولي شؤون البلاد والعباد بالنيابة عن الإمام الغائب المعصوم، شريطة أن يكون النائب فقيهاً عالِماً بالأحكام الشرعية، وبهذا فالولي الفقيه هنا يشارك الإمام المعصوم في الوظائف، ولا يشاركه في العصمة والقداسة، فالهدف الحقيقي من نظرية الولي الفقيه أن يتحول الخميني إلى نصف إله، يملك زمام دين الناس ودنياهم، السؤال هنا: من أين استلهم الخميني نظريته؟! هل شطح به الخيال وابتدع مفهوماً جديداً، أم أن ولاية الفقيه في حقيقتها محاكاة للخلافة؟ فالولي الفقيه ينوب عن الإمام، والخليفة ينوب عن الرسول، وكلاهما كاذبان، صحيح هنالك اختلافات عديدة بين الفكرتين، لكن المبدأ هنا واحد، مبدأ إمساك السلطة الدينية والدنيوية بقبضة واحدة، وهذا هو الخلل.

المشكلة حين يعطي الحاكم لنفسه صلاحيات تحوله إلى نصف إله، فيرسم خطط عمل الوزارات والبلديات، ويرسم طرق الناس إلى الجنة والنار، ليست المشكلة في الخميني فقط رغم أنه بتفكيره وعقليته مشكلة بحق، إنما المشكلة في حالة انفصام الشخصية التي تصيب كل من يعيش نصفه في الأرض ونصفه الثاني في السماء، ولو نجح «جهيمان» في مسعاه أو نجح «الإسلامبولي» قاتل السادات، أو نجح أيٌ من هذه الكائنات، لأصبح لدينا في كل رقعة خميني.

إن الحديث هنا ليس عن فرضيات وتكهنات، إنما عن حاضر ملموس العمل فيه قيد التنفيذ، بالأمس القريب هلل الإخوان ورقصوا لا لأنهم حكموا مصر، إنما لأنهم بحكم مصر أصبحوا قريبين جداً من تحقيق غايتهم العظمى المتمثلة في إقامة الخلافة، وحين سقطوا، وتم تشريدهم، لم ييأسوا أبداً، إنما اتجهوا فوراً إلى تركيا، ومن هناك أخذوا يبشرون ويخططون جدياً لإعادة إحياء الخلافة العثمانية، وهكذا يتضح أن هدف الجماعات الإسلامية كلها ليس إحياء خلافة بعينها، إنما أي خلافة والسلام، كل جماعة تحاول أن تصنع خلافتها المستقلة فتفشل، لكنها لا تيأس، وهكذا تحالف جميعهم مع إيران التي يحكمها ملالي يحملون نفس الهستيريا، ففضحهم الله وتعروا، لكنهم لم ييأسوا أيضاً، إنما اتجهوا جميعاً إلى تركيا، وأخذوا يبشرون، بل ويعملون على إحياء الخلافة العثمانية.

فما هي الخلافة عموماً والخلافة العثمانية تحديداً، والتي يتم التبشير بها والعمل على إحيائها اليوم؟ للجواب اتجاهان، الأول مسكوت عنه، والثاني خرافات يتحدث عنها الكل، أما الخرافات فقولهم إن الخلافة واجب شرعي، وأنه لا عز للمسلمين إلا بها، وأن الخلافة العثمانية هي السد الأخير الذي حين سقط تقهقر المسلمون، هذا ما يُقال بكثرة، أما المسكوت عنه فإن الخلافة عموماً والعثمانية تحديداً مجرد قصور وغلمان وجوارٍ، وعبيد وإماء، واغتيالات عنيفة لا حصر لها، الأخ قتل أخاه، والأب قتل أبناءه حفاظاً على الكرسي، صحيح أن في تاريخ الخلافة لحظات صعود كثيرة، لكنها على كثرتها ليست الغالب، إنما الغالب هو الهبوط، والأصل أن الأحكام تجري على الغالب لا على لحظات مشرقة من عمر الأمة، أول من سارع إلى إطفائها ووأدها دول الخلافة والخلفاء.