تؤكد الدراسات الآثارية المطبقة على المواقع في مختلف المناطق أن المساحة التي تقوم عليها المملكة اليوم كانت زاخرة بالسكنى والفعل الحضاري منذ مرحلة ما قبل التاريخ في الفترات المعروفة بالعصر الحجري والبرونزي والحديدي.

وتشكل محافظة العلا أحد أهم المناطق الأثرية في المملكة، حيث قامت في واحاتها حضارات قديمة وقعت على طريق التجارة ما بين جنوب وشمال شبه الجزيرة العربية، وفي مقدمة تلك الحضارات التي شيدتها الممالك العربية (دادان، لحيان، ثمود، الأنباط)، حيث كانت العلا همزة وصل بين الحضارات في شبه الجزيرة العربية ومنطقة الشرق الأدنى القديم.

وقبل ستة أشهر أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الأمر الملكي رقم (أ/‏296) بتاريخ 26/‏ 10/‏ 1438 الذي قضى بإنشاء «هيئة ملكية لمحافظة العلا»، وذلك نظرا لأهمية تطوير محافظة العلا على نحو يتناسب مع قيمتها التاريخية، وما تشتمل عليه من مواقع أثرية بما يحقق المصلحة الاقتصادية والثقافية المتوخاة، والأهداف التي قامت عليها رؤية المملكة (2030) يبرز ما حبا الله به هذه البلاد من تراث إنساني، ثم صدر أمر خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- بتشكيل مجلس إدارة الهيئة الملكية لمحافظة العلا برئاسة الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، وعضوية كل من: الأمير بدر آل سعود محافظا للهيئة، والأستاذ سعود القحطاني، والدكتور حمد آل الشيخ، والمهندس إبراهيم السلطان، والدكتور فهد تونسي، والدكتور سعد الصويان، والدكتور عيد اليحيى.

وهذا الأمر الملكي المبهج أعاد الاهتمام بالآثار والحضارة الوطنية الموجودة في المواقع الأثرية بمحافظة العلا، وذلك من واقع الانطلاق بشكل متسارع إلى تحقيق أهداف رؤية المملكة (2030) المتعلقة بالآثار والسياحة والتراث الوطني.

وقد أغلقت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني تلك المواقع بالتنسيق مع الهيئة الملكية لمحافظة العلا بهدف تطويرها، ونأمل ألا تمس عملية التطوير هذه جوهر الطبيعة الآثارية التي تقوم عليها المنطقة، لا سيما في مراحل ما قبل الإسلام، نظرا لقيمتها الحضارية والتاريخية الكبيرة على المستوى المحلي والعالمي نتيجة لقدمها، وعلى الرغم من أهمية وضرورة التنمية لتلك المنطقة من بلادنا نأمل ألا تسهم الأبنية الحديثة وأماكن الإيواء والسياحة بالمناطق الأثرية في قلب المعادلة من الحضارة القديمة إلى مظاهر الحداثة، لا سيما أن المواقع الأثرية في العلا تعتبر أرضا بكرا من ناحية التنقيب الأثري، على الرغم من نهب الكثير من التماثيل والقطع الأثرية خلال الحقبة العثمانية، علما أن أولى عمليات التنقيب في العلا قام بها الفرنسيان (جوسين وسافيناك) اللذان عثرا على عدد من الآثار والتماثيل ما بين عامي (1907- 1910)، ولم تتم أي عمليات تنقيب سوى في حوالي عام 2000.

وفي العلا وجدت أقدم الممالك العربية الشمالية في واحة دادان (وتسمى ديْدان، وددن) في وادي القرى الذي كان من أهم محطات الطريق التجاري القديم المعروف بطريق البخور، وترجع أقدم النقوش التي تحدثت عن أقدم مملكة في العلا (دادان) إلى القرنين السادس والسابع قبل الميلاد، كما يشير «العهد القديم» إلى الدادانيين في مواضع مختلفة، وقد تميزت هذه المملكة بتنظيم ودور سياسي واقتصادي مهم، من خلال نقل البضائع التجارية وتسويقها في مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط، وتدل النقوش على علاقات اجتماعية مميزة كانت تربط الدادانيين والمعينين من خلال المصاهرة، مما مكنهم من تأسيس علاقات سياسية واجتماعية داخل الجزيرة العربية وخارجها قبل نشوء مملكة أخرى عرفت بـ«مملكة لحيان»، واستمرت خمسة قرون حتى مطلع القرن الأول قبل الميلاد، ووصل نفوذهم إلى مناطق واسعة، منها خليج العقبة الذي كان يسمى خليج لحيان، واعتمد اللحيانيون على نظام ملكي وراثي، ويساعد الملك مجلس مستشارين عرف في النقوش «هجبل»، وتضمنت النقوش اللحيانية والنبطية والآرامية ذكرا لأسماء بعض ملوك لحيان، وكان المجتمع اللحياني وثنيا كمعظم المجتمعات القديمة في شبه الجزيرة العربية، وكان معبودهم الرئيس يسمى «ذو غيبة»، ولديهم معبود آخر يسمى «الكتبى».

وعن نهاية مملكة لحيان تشير النصوص التاريخية إلى أن رجلا اسمه مسعود نصّب نفسه ملكا على اللحيانيين، واستخدم الكتابة النبطية رغم أنه ليس لحيانيا ولا نبطيا، إلا أن حكمه الطارئ هذا انتهى بامتداد نفوذ الأنباط جنوب عاصمتهم «البتراء»، ليستولوا على المنطقة الممتدة من دادان (العلا) إلى الحِجْر (مدائن صالح)، إلى أن أسقط الرومان مملكة الأنباط عام 106م، وبالنسبة لموقع الحِجْر الذي يسمى «مدائن صالح» يرجح بعض الباحثين أنه مسمى عثماني، ولم يستخدم من قبل، وهو مستمد من قصة النبي صالح -عليه السلام- مع قومه الثموديين، المذكورة في القرآن الكريم حين رفضوا دعوته وعقروا ناقة الله التي جاء بها آية إليهم، فأُهلكوا بالصيحة، ويرجح الباحثون المحدثون حصول هجرات مفاجئة من تلك المنطقة نتيجة زلزال قوي، وأن تلك الآثار الموجودة حاليا ورغم أن قوم ثمود اندثروا بعد ذلك فقد تكون بعض الجماعات الأخرى قد تبنت المسمى نفسه (ثمود) فيما بعد، أما الحوض الضخم المعروف باسم «محلب الناقة» فيرجح باحثو الآثار أنه لا علاقة له بناقة النبي صالح، إنما الغرض منه أنه حوض ماء للتطهّر الخاص بالطقوس الوثنية في تلك المجتمعات القديمة.

ونتيجة لثرائها الأثري والتاريخي الذي استعرضنا جزءا يسيرا منه في هذه المقالة، شهدت منطقة العلا نشاطا سياحيا داخليا وخارجيا منذ مطلع الألفية الثالثة، ونجحت المملكة منذ عام 2008 في تسجيل موقع الحجر في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، إلا أن المشروع الحقيقي لهذه المنطقة الثرية هو «الهيئة الملكية لمحافظة العلا» التي رغم حداثة إنشائها تبذل جهودا مشكورة في تأهيل منطقة العلا على جميع المستويات، ومن ذلك إطلاق الهيئة برنامج ابتعاث لطلاب وطالبات محافظة العلا إلى أرقى مؤسسات التعليم العالمية، لا سيما في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لدراسة المجالات الحيوية للمنطقة كالزراعة والآثار والتقنية والسياحة والضيافة.

وهنا تبرز أهمية العلا وآثارها التي يمكن أن تقدم للعالم اليوم كمنطقة سعودية لها عمقها الثقافي والتاريخي، وفي هذا الخصوص يمكن توظيف حركة التأليف والبحوث والترجمة وتقنيات الإعلام والاتصال من جهة، والفنون كالمسرح والسينما والأفلام الوثائقية بلغات عدة من جهة أخرى، وذلك لتعزيز موقع المملكة وعمقها الحضاري في ظل رؤية المملكة 2030، وقد يشمل هذا المقترح مناطق سعودية ثرية أخرى غير العلا.