كلنا يعلم مدى تأثير الإشاعة في خلخلة الصفوف، وزعزعة الأمن - إذا خصصنا الحديث هنا عن الإشاعة السلبية - قديما وحديثا، وفي كل عصر لعبت الإشاعة دورا كبيرا كسلاح هدام، خاصة في أوقات الحروب، والنقلات النوعية في مسيرات الدول.

فما إن تواجه الدولة -أي دولة- مشكلة ما تهدد أمنها، حتى نجد الإشاعات تنطلق من هنا وهناك، محدثةً زوابع وانهيارات لا حدود لها، وكذلك الحال إذا استحدثت قانونا ما أو سنّت قواعد جديدة!.

والإشاعة بمفهومها البسيط والدارج، هي ترويج أخبار مكذوبة أو ملفقة لشخصية مؤثرة، بهدف تفكيك قناعة ما لدى الناس، أو تشكيلها، وذلك لتحقيق غاية ما لحساب مروجيها، أما بمفهومها الدقيق، والذي نرمي إليه، فهي تلك الأكاذيب مجهولة المصدر، المدروسة الأهداف والوسائل، المحددة بزمان ومكان معيّنين، أو المطلقة إطلاقا دون تحديد، والتي لا سند لها ولا مرجعية، وكلما زاد الغموض حولها كلما زاد ذلك من إمكان سريانها، واحتمال تحقق أهدافها.

وكما قال مونتجمري «يتوقف سريان الإشاعة على الشك والغموض في الخبر أو الحدث، فحينما تعرف الحقيقة لا يبقى مجال للإشاعة».

هذا، وإن كانت الإشاعة تبنى على جزء من حدث حقيقي، إلا أنها تُلفّ بأكاذيب تخدم أهداف مروجيها، وتنزع عنها وجه الحقيقة.

وقلما نسمع إشاعة معروفة المصدر، بل إن غالبية الإشاعات مجهولة المصادر، ملفوفة بالغموض، مما يضع المتلقي الساذج تحت وطأة ضغط نفسي كبير، ويغمره في ركام من التوقعات والتساؤلات المنطقية واللامنطقية.

وإذا تحدثنا عن الإشاعة -تحديدا في بلداننا العربية- نرى أنها تطورت من ناحية أساليبها وطرائقها، بل وتفنن أصحابها في صناعتها، فتعدت كونها أخبارا تروّج في عبارات مكذوبة، تسري بين الناس سريان النار في الهشيم، إلى صياغتها في قصص، ومقاطع مصورة محكمة المزج والتركيب، مدعمة بالشواهد التي تكون في مجملها ضربات مسددة لنفسية المتلقي.

وكما أن هناك الإشاعة السريعة، فهناك أيضا الإشاعة البطيئة التي تصمم للّعب بالأعصاب والقناعات بشكل «تكتيكي» ومدروس ولمدة أطول، وهناك الإشاعة المزمنة بفترة معينة أو حدث معين، تثور وتخبو كلما تجددت مناسبتها.

والمؤسف بحق، ذلك القبول السريع الذي تجده لدى الناس، فبقدر حرصهم على استقرارهم وأمنهم وتمسّكهم بقناعاتهم، إلا أنهم لا يتورعون عن الانجراف وراءها دون وعي ولا تقدير لعواقبها، ثم يستيقظون بعد ذلك على ما لم يكن في الحسبان، فيصبحون على ما فعلوا نادمين، وهذا ما يؤكده ديننا بل ويمقته -دون تمييز بين أنواعها وأصحابها ولا حتى أهدافها- حين وصف مروجيها بـ«الفاسقين».

في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين»، دليل صريح على أن صناعة الإشاعة فسق، ومروجيها فاسقون.

ويبقى السؤال الذي يلوح هنا: هل هذا الندم تصحبه عزيمة على عدم المعاودة أم أنها جولات، تنتهي جولة لتبدأ أخرى؟!

لا ننكر أن هناك من يتعلم من أول جولة، فتجده في المرات القادمة صامدا لا يتأثر، ولكن هناك أيضا من يستمر على وتيرة التأثر والاستسلام نفسها، ولا سبيل إلى علاج ذلك إلا بمواجهة قوة الإشاعة بقوة مضاعفة من الوعي والبصيرة لدى المتلقي، الوعي الذي يدفعه إلى التروي وانتظار الأخبار من مصادرها الصحيحة. ويأتي هنا دور الإعلام والمثقفين في التبصير بدور المواطن الصالح حيال الإشاعة، حماية لأمنه وأمن وطنه.

كما يبرز دور المسؤولين والمؤسسات ذات الصلة في التعامل مع الأحداث بشفافية أكثر، ووضع تساؤلات الناس وطمأنتهم في الحسبان عند كل حدث، أو تغيير.

وختاما، يجب أن نعترف جميعا أن الإشاعة فكر خاطئ، وعليه يجب التصدي له بفكر صائب محكم قوي، لتكون الغلبة للفكر الصائب، ولتصبح لدينا جميعا مناعة ضدها، واستعداد لمواجهتها، وإحباط أهدافها.