تناقلت وسائل الإعلام خلال الأيام الماضية عددا من حالات العنف الأسري، الموجه ضد الأطفال بشكل خاص، وتناقلت وسائط التواصل الاجتماعي عددا من الفيديوهات التي نقلت تلك المشاهد المروعة، التي مثلت اعتداءات مرفوضة ولا مبرر لها، مهما كانت الأسباب، ففي المقطع الأول ظهر معلم في إحدى المدارس الأهلية بالأحساء، وهو يوجه صفعات متتالية لتلميذ مغلوب على أمره، لم يجد الفرصة لتبرير ما اقترفه من خطأ أو الحديث مع معلمه، فلم يملك سوى أن يلوذ بالحائط لحماية نفسه، مع تعنيف لفظي لا يقل قسوة عن الضرب والصفع. وفي المشهد الثاني بدا أحد المواطنين في جدة، وهو يتفنن في ضرب ابنه وسط الشارع، غير مبال بنظرات المارة، ولم يضع اعتبارا للألم الذي اعترى والدة الضحية التي قامت بتصوير المشهد، ولم يكتف الجاني بالضرب بالعقال واليد، بل لم يتورع عن الإمساك برأس ابنه وضربه بإحدى السيارات المتوقفة.
ورغم مسارعة وزارة التربية والتعليم إلى إجراء تحقيق فوري مع المعلم المتورط، وإصدارها عقوبة بفصله من العمل، والتوصية بعدم استيعابه في وظيفة مماثلة مستقبلا، إلا أن البعض سارع عبر وسائل الإعلام الجديد إلى إظهار معارضته للعقوبة ووصفها بالقاسية، وأثنوا على المعلم المفصول، مشيرين إلى جهوده الكبيرة في تعليم القرآن الكريم وعلومه، ودعوا الوزارة إلى التراجع عن تلك العقوبة واستبدالها بأخرى مخففة، إلا أن الوزارة ردت بأن المعلم تورط من قبل في عدة حالات تعنيف بحق طلاب آخرين، وتم لفت نظره أكثر من مرة بضرورة التوقف عن ذلك. ورغم تقدير تلك الأصوات، إلا أن العقوبة تبدو مناسبة لحجم ما تم ارتكابه، بالنظر إلى الضرر النفسي الواقع على الطفل المعنف، كما أنها ترسل رسالة في غاية الوضوح إلى كل المعلمين، بأن الدولة التي تحترم حقوقهم، وتضمن حمايتهم، وترفض التطاول عليهم، وتصون مكانتهم الرفيعة، لن تتوانى في ذات الوقت عن معاقبة من يتجاوز منهم أو يعتدي على طلابه، فهناك من وسائل العقاب ما يغني عن الضرب والتعنيف وتوجيه الإساءات.
أما الطفل الذي اعتدى عليه والده في الشارع العام بالضرب والركل والرفس، فقد كان مشهده أكثر قسوة وأشد إيلاما للنفس، فالمسكين لم يجد الشجاعة حتى للهرب من والده المتهور، ولعله فعل ذلك خوفا مما سينتظره في المنزل إذا لم يمنح والده الفرصة الكافية للتفريغ عن غضبته، وتنفيس همومه، ولو كان على حساب صحته وسلامته الجسدية، فاستسلم لقدره مكرها، وهو يحاول عبثا أن يصرف عن نفسه ضربات والده المؤلمة وركلاته غير الإنسانية.
هذه الظاهرة الكريهة المتفشية في مجتمعاتنا العربية –للأسف الشديد– باتت تشكل خطرا يهدد البناء السليم للأسرة، التي أرادها الله تعالى نواة للمجتمع، وأقر لها نظما وقانونا يحمي أفرادها ويكفل استمرارها، وسعت المملكة كثيرا إلى صيانة المجتمع وحفظ حقوق كافة أفراده، لاسيما الأطفال، ولو كان المعتدي هو أحد الوالدين، فالأبوة لا تعطي الحق في الإساءة والتعنيف، وحق القوامة لا يعني بأي حال الاعتداء الجسدي المؤذي، ورغم وضوح القوانين، والصرامة التي تبديها الأجهزة المسؤولة في متابعة كافة حوادث الاعتداء البدني التي يتم اكتشافها، إلا أن استمرار تلك الظاهرة يضع أكثر من علامة استفهام، حول السبب في ذلك، ويطرح عددا من الأسئلة؛ هل العقوبات غير كافية لردع المتجاوزين؟ أم أن هناك تساهلا من جانب الجهات المختصة في فرض العقاب النظامي، لاسيما أننا مجتمع مترابط يحتكم كثيرا إلى الشفاعات والتوسط بالخير، وإصلاح ذات البين؟
وأيا كان السبب، إلا أني أرى أن هناك دورا غائبا كان يفترض في منظمات المجتمع المدني القيام به، يتمثل في تنوير المجتمع المحلي بما يترتب على العنف الأسري من آثار ضارة، وكيفية معاقبة الأبناء في حال ارتكابهم الأخطاء، وأساليب تقويمهم، إلا أن ذلك الدور يشوبه القصور في بلادنا، وحتى المنظمات القائمة والعاملة في هذا المجال لا أثر لها على أرض الواقع. كذلك فإن منظمات حقوق الإنسان، التي في مقدمة أولوياتها حماية الأطفال نجد أنها غير فعالة في توفير تلك الحماية بالشكل المطلوب.
هذا الوضع يستلزم وقفة مراجعة جادة، ووضع برنامج شامل من وزارة الشؤون الاجتماعية وبقية الجهات ذات العلاقة، ينطوي على تشجيع تكوين منظمات متخصصة في مناهضة كافة أنواع العنف الأسري، وتنوير أعضائها بأفضل ما توصل إليه العالم من حولنا في هذا المجال، ونقل تجارب الآخرين والاستفادة منها، وليس في ذلك عيب، وإقامة الندوات وورش العمل وإصدار المجلات والمطويات، والتوصية بتضمين بعض الرسائل التربوية في المناهج الدراسية، حتى تنشأ أجيالنا الجديدة وهي مشبعة بقيم احترام الأسرة.
أطفالنا مسؤولية، وتربيتهم مسؤولية أكبر، والتربية لا تعني مجرد الإنفاق على المأكل والمشرب، فالحيوانات تحظى بذلك، بل إن أهم عناصر التربية هي التنشئة الصحيحة والتقويم المستمر، ولا بأس من العقاب المشروط بضوابط الشرع والقانون، ما لم يكن مؤذيا للجسد أو مسيئا إلى الذات البشرية، إن لم نقم بتلك المسؤولية حق قيامها، فإننا نكون قد أسهمنا في تردي المجتمع وزيادة عدد المنحرفين، فسجلات الأجهزة الأمنية تؤكد أن غالبية الذين تورطوا في أعمال إجرامية من الأحداث –لاسيما في قضايا السرقة والمخدرات– كانوا ضحايا عنف أسري، مارسه بحقهم آباء لم يعلموا المعنى الحقيقي للأبوة.