بدأ الأمر بنبوة ثم خلافة على منهاج النبوة، تلاها مُلك عضوض بـ«معاوية بن أبي سفيان» مؤسس الدولة الأموية، وانتهى بـ«عبدالمجيد الثاني» آخر سلاطين الدولة العثمانية، وسيستمر هذا المُلك ما شاء الله ثم ستعقبه خلافة على منهاج النبوة التي من أولى دلالاتها أن يخسف الله بجيش، وتراق الدماء في كل مكان!

حسنا، لو تأملنا في هذا التقسيم فسنجد أنفسنا أمام العديد من الإشكالات، أبرزها أنها تجعل عقل المسلم في حالة رفض دائم للواقع الذي يعيشه، مهما كان هذا الواقع هادئا وكان المسلم فيه مرتاح البال، إلا أنه سيرفضه رفضا قاطعا، لا لشيء إلا لأن الرفض هنا عبادة!.

ما طبيعة ذلك الواقع الذي عاشه النبي؟ ما أبرز سمات فترة الخلافة على منهاج النبوة؟ ما طبيعة الحكم الذي يمكن القول إنه على منهاج النبوة؟ الإجابة عن مثل هذه الأسئلة دائما لها اتجاهان، الاتجاه الأول عقلاني بلا توهمات، أما الثاني فمبني بالكامل على توهمات، وكلا الاتجاهين مترابطان، بمعنى أن من العقلانية دوما أن يقول الإنسان لجموع المتوهمين، كفى، فما عاش النبي -عليه الصلاة والسلام- في مدينة أفلاطونية متوهمة بالكامل، إنما عاش واقعا فيه من المنغصات ما الله به عليم، هذا هو منهاج النبوة، أن يعيش الإنسان واقعه ويحاول إزالة ما فيه من منغصات، هذه هي المدينة الفاضلة لا تلك الموجودة في الرؤى والمنامات.

منهاج النبوة أن يعيش الإنسان في الواقع لا في الخيال، لأن العيش في الواقع أولى خطوات الإصلاح والبدء في التحسين، أما الهرب من الواقع والذهاب لعالم افتراضي لم ولن يوجد أبدا، فهذا سير معاكس تماما لمنهاج النبوة، لم يحدث أن عاش النبي والصحابة «أبو بكر وعمر وعثمان وعلي» حياة هانئة مسالمة عمّ فيها الخير والسلام أرجاء المعمورة، بل عاشوا صراعات وحروبا، وتواجد بينهم المنافقون والحاقدون، وظهر في زمانهم الخوارج، وحدثت فتن عظيمة لم تهدأ أبدا، لقد عاشوا حرفيا على فوهة بركان ثائر لم يهدأ يوما، ولم ينجحوا أبدا في إخماده إلا أنهم لم يتوقفوا أبدا عن العمل المتواصل لإخماده، وهذه ميزتهم، إنهم في سعي دائم لإصلاح الواقع قدر المستطاع.

الآن، لو قلت إننا نعيش فترة حُكم على منهاج النبوة لقالوا هذا ينافق، لأن القائلين يفترضون بأن «منهاج النبوة» عبارة عن شيء ما كان الجميع فيه سعداء مطمئنين، وأنه لم يكن يوجد في تلك الفترة فساد ولا إفساد ولا نقض للعهود ولا ردة ولا أنبياء كذبة، يفترضون بأن الطير كان يبيت في جحر الأفعى، وأن الحمل الوديع رقص مع الذئاب، وأنه لم توجد سرقة وتعدٍّ على الحقوق وصراعات دموية على السلطة، وكل هذه فرضيات لا أساس لها من الصحة، فما الضير أن ننظر لواقعنا، بل ونؤمن عن قناعة بأننا اليوم نسير على منهاج النبوة؟، فلا قهر بيِّن هنا، ولا ظُلم صريح، ولا هي شيوعية أو نازية، صحيح يوجد فساد ومحسوبية، وفقر وبطالة، لكن من قال إن مثل هذه المنغصات لم تكن موجودة فترة الخلافة على منهاج النبوة؟!.

تسعة وعشرون عاما هي عمر الواقع الافتراضي الذي لم يوجد أبدا، ثم يراد لنا أن نؤمن بأنه سيحدث غدا! ولو سألنا أحدهم: ما الذي سيحدث غدا؟ لقال: سيحدث غدا ما حدث بالأمس، عدل وإخاء وسلام ونور إيماني يضيء ما بين الأرض والسماء، حسنا، أين حدثت هذه الأشياء ومتى؟ هذا كتاب التاريخ خذه واقرأه مرة ثم أعد القراءة مرتين، بعدها حدد لنا بالضبط رقم الصفحة التي حدثت فيها كل هذه الأوهام! الصحابة بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- ساروا على نهجه، ونهجه أن يواجه الإنسان واقعه ويسعى دوما في تحسينه، نهجه أن يصحح المجتمع مساراته بشكل متواصل مع تقبل الجميع لفكرة أنهم مجتمع بشري ناقص معيب على الدوام، الصحابة بعد موت النبي تقاتلوا على السلطة، وانتقد بعضهم البعض، وأعرض بعضهم عن بعض، وانتهى الأمر بسفك دم عثمان والخروج على علي ثأرا لعثمان، والقول بهذا ليس استنقاصا منهم، إنما للتأكيد على أن المسألة برمتها تحولت

بعد موت النبي لبشرية بامتياز.

1400 عام هو عُمر الرفض التام للواقع، وهمٌ عام تم زرعه في عقل المسلم لا لشيء إلا ليلعن يومه، ويبقى في حالة سخط دائم من الحاضر، والساخط إنسان مأزوم، يبحث عن حل فلا يجده إلا عند حكواتيه لا يفقهون في الواقع ومشاكله شيئا.

علينا أن ندرك أننا بشر، ما يعني أن الدنيا أمامنا أمواج متلاطمة، ولا بر أمان إنما سير متواصل في هذه المتلاطمات، ولا حل هنا إلا بركوب سفينة قوية متماسكة، والسفينة هي الوطن، والوطن هو الحقيقة الوحيدة، أما الخلافة فمجرد وهم يراد منا أن نركبه لنصل لبر أمان لا وجود له، ثم يراد منا لضمان الوصول أن نخرق السفينة!.