(نحن آخر جيل من حضارة قديمة وأول جيل من حضارة جديدة، ويجب أن نضيف إلى هذا، أن جزءاً كبيراً مما نعانيه من الاضطراب والقلق والضياع يصدر مباشرة عن الصراع الذي يمزقنا وهذا الصراع هو الذي يقوم بين حضارة الموجة الثانية التي تدخل في طور الاحتضار وبين الحضارة الفتية، حضارة الموجة الثالثة، التي تتهيأ للهجوم لاقتلاع ما سبقها).

في هذا (التقويس) بعاليه، انتصف الدكتور فهد العرابي الحارثي كتابه المدهش الأخير (المعرفة قوة.. والحرية أيضاً!) وبكتابه هذا أهداني أسبوعاً من متعة افتقدتها كثيراً في تجربتي القرائية الأخيرة، وربما لأن فكرة الكتاب تتوافق مع صلب اهتماماتي حول مفاعلات الإعاقة التنموية وجوهر الأمراض الاجتماعية والإدارية التي تعترض مساطر التخطيط الصحيح لأوراق المستقبل. وفي هذا الكتاب الذي أعده ضمن أفضل (كتب العام) العربي، لا يترك فهد العرابي الحارثي حجة لكل مسؤول في قصة هذا العالم العربي أن لا يقرأ الكتاب. وسأعود اليوم للتركيز على ما بين (الهلالين) بعاليه: نحن آخر جيل من حضارة قديمة وأول جيل من حضارة جديدة، هنا تكمن بؤرة الصراع التاريخي في النقطة (الصفر) من ـ ميكنة ـ التخلف أو الانعتاق إلى المستقبل. وقبل أقل من عقدين من الزمن كان خطابنا الثقافي، عربياً كان أم محليا يحتدم بالصراع المخيف ما بين أنصار الحداثة وبين مناهضيها رغم أن الحقيقة التي تضرب تحتها بالخط الأحمر الصارخ تشير إلى أن العالم بأسره يومها يعيش نصف قرن كامل منذ أن بدأ عصر ما بعد الحداثة. نحن يومها نناقش ظاهرة منقرضة، ونحن يومها وإلى الآن نناقش ظاهرة لا مجال ولا خيار أن نقبلها أو نرفضها لأنها بالعرف التاريخي ظاهرة حتمية. النهضة ومن ثم الحداثة ومن بعدها عصر ما بعد الحداثة، إحداثات زمنية لا مجال أمام الاجتماع والمجتمع فيها أن يعود إلى نقطة من الزمن أو أن يركن في أقل الأحوال إلى نقطة ثابتة منه. كل ما فعلناه مع هذه الظواهر الفكرية أننا نناقشها بعد قرن من نقاش الأمم من حولنا لها ثم نكتشف أنه لا خيار لنا فيها على الإطلاق وهكذا تفعل الأمم التي تخلفت عن المشاركة الموجبة في الظواهر الفكرية: تناقشها حين تشعر بوطأتها تماماً مثلما تفعل بالضبط حضارة قديمة تشعر بالإهمال والنسيان مع المقاربة بما وصلت إليه حضارة جديدة. وسأضيف إلى هلال (التقويس) في بدء المقال ما يلي: نحن الجيل المسؤول عن كل الأمراض والعلل التي سترثها الأجيال القادمة لأن تلك الأجيال هي من ستشعر بعد قرن من اليوم بهذه الفوارق المخيفة بينها وبين بقية الأمم والشعوب المجايلة والمجاورة لها في تلك اللحظة نحن الجيل المسؤول لأننا لم نتخذ الخطوة التصحيحية المناسبة لبدء الخطوة الأولى في مناقشة الآخرين ومشاركتهم في الوقت المناسب. من يسهم في بناء المنجز الإنساني، وبحسب ما يقوله التاريخ، هو من يستطيع أن يفرض ثقافته وإرثه تسويقاً مع هذا المنجز. هكذا استطاعت، بريطانيا، مثلاً وهي تبدأ عصر الثورة الصناعية، ومن ثم استطاعت بالتوازي أن تكون لغتها اليوم لغة الدنيا فلا يتقابل أجنبيان على ركن من هذه الأرض إلا بكسر العجمة ما بينهما بلغة الثورة الصناعية. القصة ليست كما يظن البعض بفضل الاستعمار لأن المثال البرتغالي في المقابل يدحض هذه الظاهرة.

استلمت أميركا من بعد عالم ما بعد الحداثة ولو أن أميركا قررت هذا الصباح أن تطفئ مولدها الكهربائي فوق التراب الأميركي لوحده لانطفأ كل العالم بأسره. هي حاضنة الإنترنت بخمسين مليون صفحة جديدة في اليوم مثلما هي كل محركات البحث، مثلما هي المشارك بالربع الكامل في كل منجز تقني على وجه الأرض لأنها ركن البحث العلمي الأول على وجه هذه البسيطة. وفي المقابل البسيط: ما الذي سيحدث لو أن عالمنا العربي قرر أن يسحب لغته وأن يوقف نبض حروفه العربية عن الكلام والمشاركة في الحديث الأممي هذا الصباح وهل سيتوقف لسان الكون وماذا سيخسر هذا العالم من حولنا بانسحاب بني العروبة عن المسرح العالمي؟ ما الذي سيحدث لو أن عالمنا العربي قرر أن يطفئ مولده الكهربائي من فوق ترابه العربي وما هو المنجز التقني الذي سيخسره هذا العالم الفسيح من حولنا إذا انطفأت المشاركة العربية؟ الجواب بدهي لا يحتاج إلى عبقرية.

كل ما أراده فهد العرابي الحارثي أن يتحدث عن معامل المعرفة كقوة، والمعرفة هي العلم والجامعة والبحث والتقنية وكل ما أراده أن يردفها بشرط جوهري لا نزال من تحقيقه على بعد قرن. إنها الحرية.