كان بودي هذا الصباح أن يصل مقالي إلى كل المكتظين في مدن الزحام الكبرى، كي يشعروا بدهشة أن هناك صورا أخرى من الحياة في هذه المملكة. سأبدأ عبر التبسيط للتمهيد لفهم هذه الصورة: منذ سنوات خلت، وأنا أعتاد اختيار منتصف أبرد ليالي العام لزيارة قريتي الجبلية المثلجة، صاعدا بسيارة دفع رباعي إلى أعلى قمة الجبل المطل على القرية. ولن أكون صادقا إن قلت إن الدافع هو الحب بقدر ما هو استزادة للبؤس والكآبة التي تشرحها تفاصيل الظلام والبرد والتوقيت والمكان. تتناثر أضواء هذه القرى (الشعفية) المهجورة أمامي وتنام في سباتها الطويل. تمر نصف ساعة دون ومض لسيارة تعبر تلك الشوارع الرابطة. ومن فوق الجبل المطل على عشرات القرى، تشعر في هذه الليلة من العام بالتحديد أن للحواس معك ومعها وظيفة جديدة مختلفة.

لا وظيفة على الإطلاق لحاسة السمع، ولولا البرد القارس الذي يجبرني على تحسس أذني لظننت أنني تركتها في بيتي الأبهاوي سهوا قبل بداية الرحلة. لا شيء على الإطلاق لتسمعه، وحتى الفضول الذي قد ينتاب بعض مشاعر المعتزل في هذا الفراغ الظلامي الفخم عن أصوات عاشقين يتلاشى مع الحقيقة: نساء القرى لن يحملن أبدا في مثل هذا الشهر.

تعالوا إلى حاسة النظر: لوحة صماء ثابتة لا حراك فيها ولو حتى لعرض جناح بعوضة. وحتى النجوم القليلة التي اختارها الحظ السيئ في سماء هذه القرى تموت تارة وتومض في أخرى. راكدة تنتفض هي الأخرى من الجفاف والبرد. ومن الدهشة أن تجرب في تفاصيل الصورة وظيفة العين ونعمة البصر. تغمض العين أو تفتح الأحداق كاملة إلى كمال الدائرة فلا فرق يذكر. أحيانا أفرك جفوني بقسوة من وطأة الظن أن الخلل كان في بؤرة النظر، لا في كآبة ظلام المنظر.

انتهت الرحلة... ولكن: في تفاصيل الصباح سيستيقظ الطفل الوحيد بتلك القرية. فصله المدرسي مجرد ثلاثة طلاب، وقريته لم تنجب طفلا آخر ليلهو معه منذ 9 سنوات، فلا تظنوا أن الأمهات في هذه القرى وصلن سن اليأس بل: كل القرى تخاف من تداعيات ليالي الثلج .