تتفاوت المستشفيات الحكومية والأهلية في حجمها وإمكاناتها، ونظافتها وجودة خدماتها وتميز أطبائها، وكفاءة طاقم تمريضها والفنيين والموظفين العاملين فيها.

ولكن مهما اختلفت المستشفيات فيما بينها، فإنها ستقدم الحد الأدنى من الرعاية المطلوبة، والتي تشمل إجراء الفحوص الضرورية المتكررة، وإعطاء العلاجات في مواعيدها، والاهتمام بنظافة المريض الشخصية وحاجاته الأساسية، بحيث لا يقلق المريض ولا ذووه من هذه النواحي. فيغدو وجود المرافق غالبا فقط من باب تقديم الدعم المعنوي والنفسي للمريض. لكن ما الذي سيحصل حين يغادر هذا المريض المستشفى؟

سنتفق على أن المستشفيات لا تستطيع إبقاء جلّ المرضى لديها حتى يشفوا تماما، إلا في حالات نادرة، وهي أن يؤدي خروج المريض من هذه البيئة، كالعناية المركزة مثلا، للكبار أو الحضانات للأطفال الخدج، إلى مضاعفات خطرة أو حتى إلى الوفاة، لا سمح الله. لذلك فغالبا ما يتم السماح للمريض بالخروج، حينما يبدأ في التماثل للشفاء، أي أنه قد يكون تبقى له 50 % أو 70 % أو 90 % للوصول إلى التعافي التام.

فهناك من هو بحاجة أكثر منه إلى السرير وإلى الرعاية في هذه المستشفيات المجهزة، سواء كانت حكومية أو خاصة، وبالتالي فعلى المريض أن يستكمل علاجه في المنزل. وهناك أيضا مرضى الأمراض المزمنة، أو ذوو الإعاقات الدائمة، أو كبار السن، ممن لم تعد المشافي قادرة على أن تقدم لهم ما يساعد في تحسنهم، وإنما يصبح الهدف هو المحافظة على أوضاعهم الحالية، ومحاولة الحد من متاعبهم. كل هذه الفئات وعائلاتها سيجدون أنفسهم في واقع جديد صعب ومربك ومحيّر.

فالناحية المادية لرعاية أي مريض، حتى لو اقتصرت فقط على شراء الأدوية والأدوات، لا شك أنها مكلفة، ولكنها تظل غالبا التحدي الأخف، لدى أبناء الطبقة المتوسطة على الأقل، مقارنة بالتحديات الأخرى.

فمن سيقوم برعاية المريض خلال 24 ساعة، كما كان عليه الحال في المستشفى؟ هناك ثمة طاقم تمريض يعمل بنظام الدوريات كل 8 أو 12 ساعة، بحيث يتفرغون -رغم الضغط الشديد عليهم بارك الله فيهم- لرعاية هذا المريض، لكن من سيفعل ذلك في المنزل؟

صحيح أن للمريض غالبا أهلا يحبونه ويرغبون في خدمته، لكن لكل منهم ظروفه، فمن بينهم الصغير، ومن يدرس، ومن يعمل، ومن يرعى الأطفال، ومن هو كبير في السن أو مريض وبحاجة إلى المساعدة. فمن أين يأتي الدعم؟

الأسر الميسورة ستلجأ إلى بذل الغالي والنفيس لحل هذه المشكلة، فقد تتعامل مع مراكز علاجية خاصة، وتدفع لهم بالساعة لقاء خدمة التمريض اليومي أو الأسبوعي، في المنزل أو في دار نقاهة، أو تبحث عن ممرضات أو ممرضين للعمل خارج أوقات الدوام الرسمي، أو قد يصل بهم الأمر إلى استقدام ممرضة أو أكثر من بلادها لهذا الغرض.

أما الأسر ذات الدخول المتوسطة فما دون، فقد لا تكون هذه الخيارات متاحة لها، فيتولون هم رعاية مرضاهم، رغم صعوبة ذلك، خاصة إن كانت لديهم التزامات معيشية ضاغطة أخرى في حال طالت المدة، وقد يكون أقصى ما يستطيعون عمله إحضار عاملة منزلية للمساعدة، مع أن هذه العاملة قد لا تكون الشخص المناسب للعب هذا الدور المهم.

ولأن هذه الحالة ليست خاصة بنا وحدنا، فيمكننا مشاهدة كيف تعاملت الدول المتقدمة مع مثل هذه المشكلات، خاصة مع اختلاف المجتمعات الغربية عن العربية، في جهة الترابط والقرب الجغرافي والمعنوي بين الأهل والأقارب.

فالنظام الصحي في تلك البلدان يحرص على تخفيف الضغط عن المستشفيات، ويؤمن بأن الرعاية المنزلية ليست فقط أقل كلفة من التنويم بالمستشفى، وإنما أفضل نفسيا للمريض أن يكون في بيته ووسط أهله وجيرانه. حتى إنهم باتوا في بريطانيا مثلا يشجعون الولادة المنزلية، ويعطون هذا الخيار للمرأة الحامل، ممن لا تعاني مشكلات صحية، ويتوقع أن تلد ولادة طبيعية دون تعقيدات، لما وجدوه من أن ذلك ينعكس إيجابيا على نفسية المرأة خلال الوضع وبعده. وحتى لو وضعت المرأة طفلها في المستشفى بشكل طبيعي، فإنه خلال الأسابيع الـ6 التالية للولادة «فترة النفاس – الأربعين»، ستزورها القابلة عدة مرات للاطمئنان على صحتها «جسديا ونفسيا» وصحة المولود، وللإجابة عن أسئلة الأم الجديدة بخصوص الرضاعة أو الرعاية.

وينطبق الأمر على بعض الأمراض المزمنة أو النادرة، كما هو الحال في بعض الأطفال المصابين بإعاقات شديدة، فهم يدركون أنه حتى لو كان أحد الأبوين أو كلاهما متفرغا ولا يعمل، فإن الأسرة تحتاج إلى المساعدة والدعم في رعاية المريض، حتى يتمكنوا من التقاط أنفاسهم ومواصلة حياتهم. فالضغط الجسدي له انعكاسات نفسية ربما تكون مدمرة للشخص المشرف على الرعاية، إن لم يكن هناك من يساعده.

أدركت المملكة منذ فترة تقترب من 10 سنوات أهمية الرعاية الصحية المنزلية، ففي وزارة الصحة برنامج خاص يُعرف ببرنامج «الرعاية الصحية المنزلية»، وهو يقدم خدمات مهمة ومتنوعة لفئات بعينها، وله شروطه الخاصة الموضحة في موقع وزارة الصحة، والتي بعضها منطقية جدا ومقبولة، وبعضها ربما يحتاج إلى أن يُعدّل لأن يكون أكثر مرونة وفعالية. كما تحتاج إلى تحديث البينات والإحصاءات المتعلقة بإنجازات هذا القطاع وحجم الاستفادة منه.

شخصيا، لا أعرف فردا أو أسرة استفادوا من هذا البرنامج المجاني المقدم من وزارة الصحة، فكل من احتاج إلى هذا النوع من الرعاية كان يلجأ إلى الحلول من القطاع الخاص، وبالتالي لا يمكن الحكم على مدى فعاليته واستفادة المرضى منه، لكنني أتمنى أن يُفعّل وينتشر بشكل أكبر. ويمكن أن تضاف إليه خدمات أخرى وإن بمبالغ رمزية، وأن يُتاح لجميع فئات المجتمع بلا تمييز، فالمرض لا يعرف كبيرا ولا صغيرا، ولا يميز بين ألوان جوازات السفر. فحتى أكثر المتعصبين حين يجد نفسه وسط المرض والألم له أو لمن يحب، سيشعر بأن العلاج يجب أن يكون للجميع، لأنه ضرورة وليس ترفا، ولأن الإنسان لا يكون إنسانا إلا إن أسهم في تخفيف أوجاع الآخرين.

متّعنا الله وإياكم بالصحة والعافية، وشفى الله مرضانا ومرضى المسلمين، ووفق المسؤولين إلى تقديم الخدمات المناسبة للفئات الأضعف من المجتمع.