آيات كثيرة نزلت في مناسبات معينة، ولكن العبرة كما يقول الأصوليون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كله في محاولة منهم لاستنباط القوانين الاجتماعية من الحدث المنفرد.
وكعب بن مالك نزل فيه قرآن، وهنا جمال القصة وروعة الوحي والتنزيل، إنه قرآن سيقرأ حتى يوم الدين، بعد أن يكون صاحب القصة قد شبع موتا عبر القرون.
ولكن ذكرى القصة ستبقى وتتلى وتبكي عيونا كثيرة تأثرا بالقصة وكيف نجح صاحبها في المحنة بعد شهرين؟
"لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ".
هكذا جاءت الآية 117 من سورة التوبة..
وتأتي الآية التي بعدها "وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".
إنها آية واحدة ولكن خلفها قصة عظيمة، هي قصة كعب بن مالك! فقد كان الوقت صيفا قائظا حين أمر النبي (ص) الناس بالنفرة، وحدد لهم أن الطريق هو للشمال، وكانت آخر غزوة وأعظمها إطلاقا وأكبرها أثرا أين وصل الإسلام وقوته واعترافا من دولة بيزنطة بالقوة الجديدة؟
كانت العادة أن يعلن النبي (ص) عن شيء وينطلق في اتجاه مخالف؛ فالحرب خدعة ومكيدة، هذه المرة أعلن الرسول (ص) أنه خارج باتجاه الأردن الحالية، وهي مسافة تصل إلى أكثر من ألف كيلومتر من حافة المدينة إلى الأراضي الأردنية الحالية، حتى يستعد الناس لها جيدا.
كان التجمع هائلا وصفته سورة التوبة جيدا. كان الناس متطوعة يجهزون أنفسهم بخيل وجمل وسلاح، وكيف جاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم، وقعد الذين كذبوا الله ورسوله، وكيف جاء البكاؤون الذين وصفهم القرآن بأن الرسول (ص) قال لهم لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألايجدوا ما ينفقون، فتمضي الرحلة، وقلوبهم مع الرحلة، والدمع يجري على الوجنات.. إنهم فعلا في الرحلة بقلوبهم.. ولكن هناك من يتردد ويقدم رجلا ويؤخر أخرى ويتكاسل فلا يلتحق بالحملة العسكرية.
إن المجتمع النبوي ليس فيه جيش إلزامي كما في الجيوش الحالية، بل كله من المتطوعة جاهز للجهاد في كل لحظة، فإذا انتهت المعركة رجع الجنود يفلحون الأرض ويزرعون ويصنِّعون.
يسأل نبي الرحمة (ص) عن كعب بن مالك ماذا فعل؟
إنه يتفقد أصحابه المهمين فردا فردا..
يجيب أحدهم إنه مهتم بملابسه ومنظره وأناقته: حبسه برداه والنظر في عطفيه.
ينبري آخر فيدافع عنه: لم نعرف عنه إلا خيرا.
وتمضي الرحلة وتغيب عن الأنظار وفات وقت اللحاق..
الآن رجعت الحملة العسكرية بأفضل النتائج بوثيقة مع إمبراطوريات الجوار بدون معارك عسكرية.
يفكر كعب بن مالك ماذا يفعل؟ فيكتشف نفسه أن الصدق أفضل شيء! وبذلك يواجه النبي ليقول إنني رجل أوتي جدلا، ولو جلست بين يدي أي رجل آخر من الدنيا لاختلقت الحجج والأعذار وأعذرت، ولكن ليس لي من عذر! والله ما كنت يومها أغنى ولا أقوى من ذلك اليوم! يلتفت النبي لأصحابه ويقول: أما هذا فقد صدق انصرف حتى ينزل حكم الله فيك.. وتبدأ المقاطعة الاجتماعية تحكم نسيجها حوله لدرجة الاختناق!