من المعروف أن مساحة المملكة العربية السعودية تشكل معظم مساحة شبه الجزيرة العربية التي تميزت عبر التاريخ بموقعها المميز في منطقة الشرق الأدنى القديم، فكانت حلقة الوصل بين الحضارات القديمة، الأمر الذي جعل هذه المساحة الجغرافية ذات تأثير بشري على المستوى الاقتصادي والثقافي الاجتماعي، كما دورها كان مميزا في تكوين السلالات الأكثر عددا بين سكان المنطقة القدماء، بالإضافة إلى ذلك تنوعت جغرافية هذه المنطقة ما بين الصحاري والأودية والسهول والجبال والبحار ذات «المضايق» الإستراتيجية في خطوط الملاحة والتجارة، الأمر الذي أتاح لسكان المنطقة القدماء أن يكونوا مؤثرين عبر التاريخ على مستوى التبادل الاقتصادي والثقافي مع بقية الشعوب الحضرية القديمة المعاصرة لهم.

ومن خلال الدراسات والبحوث التاريخية والأثرية -اطّلع عليها كاتب هذه السطور- في هذا الاتجاه، لم يعد ممكنا تصور المساحة التي تمثلها المملكة العربية السعودية اليوم على أنها منطقة معزولة وحدود مغلقة على سكانها، كما لم يعد ممكنا تصور السكان القدماء لهذه المنطقة بأنهم طارئون على الحياة والحضارة والتاريخ، حيث ثبت من خلال الدراسات الأثرية والحضارية و«الإنثروبولوجية» أن المجموعات البشرية التي استوطنت هذه المنطقة انتشرت في كل جهات الشرق الأدنى القديم، فكان لها ما لها دور حضاري بدأ عبر الإسهام في التبادل الاقتصادي مع المناطق المجاورة التي ارتادوها ونقلوا إليها السلع والمنتجات التجارية، كالبخور واللبان والصمغ، كما أن استئناس تلك المجموعات البشرية للجمل (سفينة الصحراء)، واستخدامه أسهم في تسهيل عملية التنقل وتكريس قيام إنسان شبه الجزيرة العربية لدوره الاقتصادي والثقافي والحضاري.

ودلت تلك الدراسات على أن المنطقة الحالية للمملكة العربية السعودية مرت بها عصور كثيرة، وذلك من خلال ما خلّفه إنسانها البدائي القديم في العصور الحجرية من أدوات ورسوم وآثار ومعثورات متنوعة، كأدوات الاستعمال اليومي، وأدوات الزينة والنحت والنقش في مناطق متعددة.

حيث تشير الكشوف الأثرية إلى أن وجود الإنسان القديم في هذه المنطقة قد بدأ في العصر الحجري القديم، حيث قام هذا الإنسان بصنع أدواته الحجرية، وكان في الفترة الأولى بدائيا ثم تحول إلى جامع للغذاء وصياد ثم احترف الرعي، وتغطي هذه المرحلة فترة زمنية تقدّر من مليون إلى ثمانية آلاف عام قبل الميلاد، وتميزت هذه المرحلة بسمات حضارية مهمة مثل استئناس الحيوان، وظهور الزراعة، واستعمال الأواني الفخارية.

هذه الدلالات تؤكد أن منطقتنا لم تكن في عزلة خلال عصور ما قبل التاريخ، لما لموقعها الجغرافي من تميز ساعد في تبادل وانتقال الأفكار بينها وبين القارات الأخرى (إفريقيا وآسيا وأوروبا) بشكل مباشر وغير مباشر خلال قرون طويلة، حيث تشير الدراسات الحضارية إلى أن وجود التطابق والتماثل بين الحضارات المتباعدة مكانيا يقود إلى ترجيح فرضية ازدهارها بصورة مستقلة، حيث كان سكان مناطق عصور ما قبل التاريخ في وضع متماثل من حيث المتطلبات المعيشية رغم اختلاف مناطقهم، وبما أن منطقة شبه الجزيرة العربية -التي تمثلها المملكة العربية السعودية اليوم- قد تم استيطانها منذ القدم، فإن أراضيها تزخر بالمعثورات الحضارية والمستوطنات التي تعود إلى حقبة العصر الحجري المبكر.

بل دلّت المعثورات الأثرية في المملكة على وجود تماثل بينها وبين النماذج المكتشفة في آسيا وإفريقيا وأوروبا، ويوجد انتشار لمواقع العصر الحجري القديم الأعلى في بعض مناطق المملكة العربية السعودية، ومنها ما وجد في مختلف المناطق الغربية والوسطى والشمالية والغربية، حيث تدل القطع الأثرية التي اكتشفتها الهيئات والفرق المسحية والأثرية على مدى عقود في تلك المناطق على وجود فعل حضاري قديم يغطي فترات تاريخية مختلفة تشمل التقاليد الصناعية في العصر الحجري، مما يدل على وجود حضارة بدائية قامت في المملكة العربية السعودية خلال العصر الحجري، ومن أشكال تلك الحضارة البدائية «الحضارة الوعالية» التي عثر فيها على أدوات ليس لها مثيل، وكذلك «حضارة كلوة» التي كانت تقع على الطريق الذي يصل آسيا بإفريقيا الذي سلكته الأقوام المهاجرة في أزمنة غابرة، ودلت المعثورات التي وجدت فيها على ثراء لا مثيل له في أي حضارة معاصرة لها.

على ضوء ما سبق من تلك الدراسات يتبين أن المملكة العربية السعودية تزخر بالموجودات الحضارية القديمة، فنظرا لتباين البيئات الطبيعية فيها تباينت تلك الموجودات والأدوات والأنشطة الاجتماعية في كل مستوطنة، وبذلك أصبحت علاقة منطقة المملكة العربية السعودية وجيرانها أكثر انتظاما بعد استئناس الجمل، ولذلك انتشرت القوافل التجارية للعرب الساميين مقيمة علاقات تجارية وحضارية في بلاد وادي الرافدين، وحوض البحر الأبيض المتوسط، وإفريقيا وغيرها.

بل إن منطقة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية ومركز الدولة مرّت بفترات حضارية قديمة ومبكرة جعلتها مركزا زراعيا واقتصاديا، بالإضافة إلى كونها رابطا لطريق التجارة القديم بين جنوب وشمال وشرق شبه الجزيرة العربية.

كل هذه المتفرقات الحضارية تؤكد أن أراضي المملكة ترقد فوق كنوز دفينة من الآثار والمستوطنات الحضارية، وتستحق أن تجرى فيها الدراسات والبحوث والاكتشافات الأثرية من جديد لاكتشاف أكثر مما تم خلال فترة الأربعين سنة الماضية، وذلك تماهيا مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030 التي تستحق في جانب من جوانبها أن توضع إستراتيجية للدراسات الأثرية المعمقة، ومن ناحية أخرى أن نقدم للعالم ما تم اكتشافه لدينا، فنحن دولة ضاربة في عمق التاريخ والحضارة، ولسنا طارئين عليهما، كما أن رصيدنا الحالي ليس النفط -فقط- الذي نـحمد الله أن منّ به علينا قبل ثمانية عقود، لتتسابق إلينا كل حضارات العالم وكل ثقافات الشعوب.