يلفت النظر، فيما أوردته صحيفة «سبق» الأسبوع الماضي، عن برقية وزير التعليم الدكتور أحمد العيسى، الموجَّهة إلى مديري الجامعات، بشأن مقرر «الثقافة الإسلامية» ثلاث مسائل: ما يصفه الوزير في محتوى المقرر، والمعالجة التي يطالب بها بناء على هذا الوصف، وآلية المعالجة التي ينص عليها.

في الوصف لمحتوى مقرر «الثقافة الإسلامية»، وهو «متطلب جامعة» تجب دراسته على كل طلاب البكالوريوس، تتجه ملاحظة الوزير، إلى الوجهة الأيديولوجية لمحتويات المقرر، إذ يرد في وصفه لها قوله:

«أصبحت تفتقر إلى المحتوى العلمي الرصين الذي يعزز الوسطية والاعتدال والهوية الوطنية الأصيلة، ويحمي الطلاب والطالبات من مخاطر الانسياق خلف التيارات المنحرفة».

وفي المعالجة للخلل الملاحظ في الوصف السابق، يتجه الوزير إلى رؤية فكرية أكثر انفتاحا تجاه المستقبل والآخر، وتأكيدا على المعنى الوطني والتسامح وأخلاق المسؤولية، حين يشدّد على:

«استثمار تلك المقررات بما يخدم الوحدة الوطنية، وتعزيز روح الانتماء، وانتفاء ما يعزز الغلو والتطرف والكراهية ضد الشعوب والثقافات الأخرى... والدفع باتجاه تحقيق رؤية السعودية 2030، والاستثمار في الوطن وأبنائه، وتناول قيم التعايش والتسامح والحوار والنزاهة والمواطنة، وتعزيز المسؤولية والرقابة الذاتية وحقوق الآخرين والقيم الأخلاقية، والمحافظة على المال والممتلكات العامة».

وفي آلية المعالجة وخطواتها، يرسم الوزير الطريق نحو مراجعة محتوى هذا المقرر وتطويره، عبر «تشكيل لجنة متخصصة من أعضاء هيئة التدريس المشهود لهم بالكفاءة العلمية والاعتدال». ومطالبة مديري الجامعات «بالاهتمام الشخصي بذلك، وتزويد الوزارة بتقرير خلال 30 يوما عن الخطوات التي يتم اتخاذها».

أما ما يلفت النظر في تلك المسائل الثلاث، فهي ثلاثة أمور:

أولها، حساسية الوصف الذي تضمنته برقية الوزير لمقرر الثقافة الإسلامية، وخطورته. وأي خطورة أكبر من أن يتضمن مقرر إجباري على الطلاب، دَفْعهم إلى الانسياق خلف التوجهات الغالية، وتعزيز التطرف في نفوسهم نحو كراهية الآخرين، والانحصار في الماضي، وإضعاف قيمهم الوطنية؟!

والثاني، ضخامة المهمة التي يحمِّلها الوزير للمعالجة المطلوبة من الجامعات تجاه المقرر، فهي مهمة ثقافية وفكرية وتربوية تجاوز القدرة التي يمكن أن يطمح إلى تحقيقها مقرر جامعي بمفرده. وذلك من دون الحسبان للصعوبة المفترضة في إصلاح سريع لمقرر تَبَادل الإنتاجَ لعقود مع فكر حزبي تعبوي ومع نظرة فقهية أحادية ترفض كل اختلاف.

والثالث، صفات المعالجة للمقرر، من جهة الإلحاح العاجل على تنفيذ ما يتطلبه من مراجعة وتطوير، ومن جهة صفات «التخصص والكفاءة العلمية والاعتدال» المميزة في اللجنة المطلوب تشكيلها لتأدية المهمة. فالمعالجة على هذا النحو لا تتناسب مع المشكلة كما هي مطروحة في الوصفين الأول والثاني: في حساسية الوصف المشخِّص لها والخطورة التي يُنذِر بها، وفي ضخامة المهمة التي تتطلبها المعالجة.

لم يخطئ معالي الوزير في وصف هذا المقرر، فهو، في جوانب عديدة من تجلياته، مقرر مؤدلج أدلجة حزبية متعصبة، وقد تشبَّع بهذه الأدلجة حتى التبست بالدين التباسا يماهي أحدهما بالآخر ويحجُبُه به. وتبادلت الأدلوجة الحزبية التي تأوَّلت الثقافة الإسلامية وفق غاياتها، الإنتاجَ مع تلك الأحادية الفقهية المتشددة التي لا ترى في الاختلاف عما يراه أشياخها سعة ترفع الحرج عن عباد الله، وثراء يخصب به النظر الفقهي ويرحب، وسماحة ويسرا.

وها هي الكتب المعتمدة لتدريس المقرر في جامعاتنا الكبرى، وهي كتب مؤلفة للوفاء بالتوصيف الموضوع له من الأقسام المختصة Textbooks، وبعضها يمكن تصفحه على الشبكة، تشهد على ذلك.

وأول ما يلاحظه المرء في مادة هذه المؤلَّفات التركيز على ما يوصف بـ«النظام السياسي في الإسلام». هكذا بـ(ال) التعريف التي تعني وجود نظام سياسي في الإسلام متعين في الأذهان. ثم يذهب هذا التعيين إلى تمييزه «على أسس ومبادئ عقدية وخلقية ثابتة». وهذه الأسس عند وصف المقرر لها لا تخرج عن مفهوم «الحاكمية» الشهير الذي كان وما زال ذريعة لدى جماعات الإسلام السياسي لنهب السلطة والاستبداد بها وتأوُّل الإسلام لغايتهم هذه.

والحديث عن «النظام السياسي في الإسلام» يقتضي في محتويات مقرر الثقافة الإسلامية، الحديث عن أنظمة المجتمع كلها بذلك المنطق الأيديولوجي الشمولي. فتفسح الكتب الجامعية التي يدرس الطلاب فيها مقرر الثقافة الإسلامية للنظام الاقتصادي في الإسلام، وللنظام الاجتماعي في الإسلام، مسهبةً في إيراد الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، ومتأوِّلةً لها من زاوية أحادية لا تقبل الاختلاف، زاوية تَغفَل عن مساحة الخبرة البشرية: مساحة التعلم والتجربة الدنيوية، التي عاشها المسلمون ويعيشونها، كما عاشها ويعيشها غيرهم.

وأمام هذه الشمولية التي تدعيها الأيديولوجيا الأصولية باسم الدين، يصبح الطلاب المتعلمون مدعوين ضمنيا إلى قياس المسافة بين النموذج الإسلامي للمجتمع والحياة، فيما ترسمه كتب المقرر، وواقع المسلمين وحياتهم فيما تتجلى في الحضور الراهن والمعيش. وهذا القياس يكشف عن فجوة بين الواقع وبين النموذج المفترض من هذه الوجهة، في حياة المجتمعات الإسلامية كلها، بما فيها المجتمع السعودي، بل يكشف ذلك القياس عما في حياة غير المسلمين من «جاهلية».

ولا بديل عند من تصحُّ في ذهنه تلك الفجوة، ومن يَخْفَى عليه تملُّك الفكرة الأيديولوجية للفكر وتعميتها على قدرته في الاستبصار والتساؤل والتفكير - لا بديل عن تصحيحها وردمها لبلوغ النموذج المفترض درجة تحقُّقه الأمثل، الدرجة التي تصح بها حياة الأمة وحياة العالم كما تقتضيها الأيديولوجيا المتلبسة بالدين والمتذرعة به. وهذا هو فحوى خطاب جماعات الإسلامي السياسي بتجلياته المختلفة التي تطمح جميعا إلى إعادة حياة المسلمين إلى النموذج المجرد للإسلام لديها. وهو كذلك مبرر المخاوف التي ترددت حتى عند الأوروبيين مؤخرا من أسلمة أوروبا، بوصف تلك الأسلمة غاية يسعى إليها المتطرفون من المسلمين.

ولا بد أن يتساءل المرء: لماذا تحتشد تلك المؤلفات بعناوين فصول مطوَّلة عن «نواقض الإسلام» و«القوى المعادية للإسلام» و«المذاهب والنظريات الحديثة» و«علاقة الثقافة الإسلامية بالثقافات الأخرى» و«موالاة الكافرين والبراءة منهم» و«الحكم بالقوانين والأنظمة الوضعية»… الخ؟!. وهي كتب تقصد تقديم مادتها وتدريسها لطلاب في مرحلة البكالوريوس، المرحلة التي لا تقوى فيها ذهنية الطالب على التحليل والتفكيك للمادة التي يتلقاها، خصوصا وجُلّ هذه العناوين يقيم ذهن الطالب الغض مقام الدولة في مضمون المخاطبة به!

هكذا تُشيع هذه الكتب الفكر المتوجس من العصر ومن الآخر: الفكر المولَع بالقوالب والمصطلحات التصنيفية، والمكرّس للفرز التراتبي بين مكونات الذات من جهة، وبينها وبين الآخر من جهة أخرى. فلا قيمة للإنسان في إنسانيته، ولا قيمة للمواطن في وطنيته، لأن القيمة هي قيمة الاعتقاد الأيديولوجي الذي يوصف بأنه «إسلامي». والمسلم نفسه تتضاءل قيمته -في هذا المنظور الأيديولوجي- بقدر زهده في فكر بشري يسوِّق تصوراته وأهواءه ومخاوفه باسم الدين.

لقد تأخرت الجامعات في الانتباه إلى هذه الخطورة، وها هي فطنة الوزير تسبق إلى التصحيح، والمرجو أن يكون تصحيح المقرر وتطويره تصحيحا جذريا لطريقة التفكير وتصوراته التي تأسست عليها أهداف المقرر، وليس تغييرا محدودا في مفرداته ومحتواه.