كثير من الأحداث والتقلبات التي شهدناها وشهدتها بلادنا، والتحركات التي أثرت تأثيرا مباشرا على أفكارنا وتوجهاتنا، كانت -إن جاز التعبير- أشبه بانتفاضة غير مخطط لها، هي ردة فعل طبيعية -وإن كانت متأخرة جدا- ضد تيار ديني متطرف نوعا ما، هيمن لسنوات طويلة، وبما أن القاعدة تقول: الكبت يولد الانفجار؛ فقد حُشيت العقول بما يكفي لتنفجر، لا سيما أن ذلك الحشو صاحبه قمع للآراء، ورفض للرأي الآخر، وتزمت انحرف بالدين الإسلامي عن مقاصده المرتكزة على اليسر والسهولة، والانفتاح على الآخر، إلى التعسف والتعقيد والانغلاق.

ولو رجعنا إلى مصادر التشريع الأساسية المتمثلة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، لوجدنا النقيض تماما، ولوجدنا كيف أن الإسلام دين لن يُشادّ أحد إلا غلبه كما قال عنه النبي، عليه الصلاة والسلام، وهذا الوصف لم يكن من فراغ، ولا النبي ينطق عن هواه، وهذه العبارة وحدها كفيلة أن تجعل ديننا الدين المرغوب المتبوع عالميا، ولكن لتصوير بعض المتزمتين

له بصورة منفرة، وجعلت منه زنزانة مفقود من يدخلها ومولود من يخرج منها، إننا لا نقول كلاما مجردا من الأدلة، بل واقع شهدناه، فمن يتتبع إعراض البعض عن الإسلام وهم بنوهُ وتتبعهم لما لدى الغرب والديانات الأخرى، وإبداء الرضا تجاه معتقداتهم وأساليب حياتهم، وبالمقابل إعجاب معتنقي الديانات الأخرى بالإسلام وإقبالهم عليه، ليجزم أن الخلل ليس في الدين، بل بمن نقله، وشرحه وصوره.

إن نوبات التطرف التي ضربت أعصاب الدين في مقتل، وضربتنا معه، قسمتنا رغما عنا إلى ثلاثة أقسام: قسم انصاع لها انصياعا تاما دون نقاش وأصبحوا نُسخا مطابقة مكررة، وقسم رفضها وانقلب عليها ومنه تشكلت فرق منحرفة عقديا وأخلاقيا، وتبعيون تبنوا أفكارا ضالة، وقسم تأرجح لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، بل انتظر ثورة تطيح بهذا التيار وتتيح الفرصة لآخر أقل منه حدة، وأكثر مرونة.

وبالفعل وشهدنا عيانا أنه كان من بين محصلة الثورات المجاورة والتغيرات المتوالية المتسارعة في السنوات الأخيرة ضرورة إعادة النظر ومراجعة ما مضى، خاصة على الصعيد الديني برزت معه الحاجة الملحّة إلى فك عرى ذلك التطرف، وخلخلة بعض الأفكار القواعد الجامدة ذات البدائل الأكثر مرونة، وترويج ثقافة الرأي والرأي الآخر، والانفتاح على الآخر في طقوس تتسم بالاحترام والثقافة العالية التي تحفظ لكل طرف كيانه، بعيدا عن التعصب والهمجية.

ولا يخفى علينا جميعا ما تطلبته وتتطلبه هذه العملية من جهود كبيرة، معنوية وحسية، أشبه بتلك المبذولة لتغيير مجرى نهر إلى مجرى آخر بطرق بدائية بسيطة، كي يستمر هذا النهر في العطاء دون أن يحدّ مسيرة الطبيعة، أو تحده هي بتقلباتها أو تربك تدفقه.

وفعلا انطلقت المناداة، برفع الحظر عن العقول لتختار، وعن الأقلام لتكتب، وإطلاق سراح الدين من قبضة المتزمتين الذين سلكوا طريق الترهيب، وحجبوا أدلة التيسير، وجعلوا من قاعدة: سد الذرائع، وسيلة لمنع الكثير من المباحات، بينما قد يتمتع بها بعضهم، بحجة أنهم بلغوا من الفقه ما يجعلهم لا يقعون في الحِمى وإن حاموا حوله، فأصبحنا نسمع فتاوى لم يسبق لنا سماعها من قبل، ونرى جوازات لم نكن لنؤمن بها لولا وجود ما يؤيدها، رغم أن الدين هو هو ذاته، والمصادر هي هي ذاتها.

ختاما، على الدعاة أن يخففوا قبضتهم عن الدين وأتباعه، وإنارة الطريق لمن يريد اعتناقه دون إكراه، وأن يَعرضوا الحكم بجوازاته وموانعه ويصححوا النظرة إلى الآخر، ويطلقوا أعنّة الآراء، ويظهروا الدين بمظهر الباني والراعي للإنسان والحضارة معا.