ليس ثمة مبالغة في الزعم بأن أزماتنا ومشكلاتنا كلها تتراكم في واقعنا، بسبب غياب الثقافة الخالصة التي تتشكل في الذهنية الجمعية، من خلال الاستجابة لأي من التعريفات (الثقافية)، حتى ولو كانت «الإلمام من كل علم وفن بطرف»، بحسب المفهوم القديم للثقافة في خطابنا المعرفي العربي.

الاستجابة لمعطيات الثقافة هي الاستجابة لمجموعة القيم والأفكار التي تنبثق عن منهجيات التفكير العلمي الصحيح، لتجد في البحث الدائم المتحول عن كل ما ينفع الإنسان، ويجعله خليفة لله -عز وجل- على أرضه.

وهي الاستجابة المتحققة لمخرجات حضارة العالم الرقمي في الزمن المعلوماتي الجديد، كما أنها الاستجابة للقيم الدينية والإنسانية العليا، التي تشيع في المجتمعات قيم الحق والخير والجمال..

أطياف تلك التعريفات الثقافية هي التي تصل بنا إلى الثقافة الكلية.. الفاعلة.. المؤثرة، التي تتجاوز المفهوم التقليدي للثقافة، الذي يحصر أثرها في تلك النخب البشرية المحددة، التي (تتعاطى) معطيات العلوم الإنسانية والتجريبية، بصوت فردي.. واهن! لتكون ثقافة عامة تغمر المجتمع كله، من خلال (إنسانها) الحديث، الذي تتجلى فيه سمات رئيسة حاسمة، لعل أهمها: (الانفتاح على تجارب الآخرين -الاستقلال الذهني عن أية سلطة دينية أو سياسية أو ثقافية أو اجتماعية، احتفاء بحق الفرد في إثبات وجوده ودوره الفاعل في صياغة الخطابات المدنية والمجتمعية والسياسات المحلية- الإيمان بأهمية العلم وانحسار ذهنية الخرافة والأسطورة والقدرية المتجردة من اتخاذ الأسباب الدنيوية، وهذا التماهي مع خطاب العلم يتوافر بدوره على عدة شواهد أبرزها: البناء التراكمي للمعرفة -التفكير وفق منهجية منضبطة-، الشمولية التي تعني التفكير بطريقة شمولية تتسع لفضاء التجربة الإنسانية كلها)، الغياب المرير للأطياف الثقافية تلك، هو الذي أنتج لدينا الكثير من العقول المعطلة، التي تنساق (دائما) إلى أكثر الخطابات عاطفة وضجيجا، وتفتقد إلى (الآلية) الصحيحة، التي تساعد الفرد على اتخاذ المواقف الصحيحة في رؤيته إلى الكون والإنسان والحياة بمظاهرها وتعقيداتها المتنوعة، وهو الذي أوجد تلك النماذج البشرية المتطرفة في ارتهانها لأصولها الغابرة أو انجرارها وراء (حداثتها) الواهمة!

ولا شك أن غياب الخطاب الثقافي هو الذي يجعلنا (نتغربل)، ونحن نحول ذواتنا إلى موضوعات للريبة والتوتر والاختلاف، كما نصنع مع (المرأة) ونحن نخوض بفحولة الوصي غمار شؤونها كلها.. أو في اللحظة التي يقارب فيها أحد المثقفين بالانتقاد عادة (دينية) تواطأ مجتمع الصحوة على قدسيتها ومشروعيتها، رغم أنها موضع (أخذ ورد)غالبا!

هذه الحاجة الإنسانية الملحة للثقافة الصحيحة ترتبط (بدياليكتك) مستمر مع الخطاب التعليمي، الذي يشكل النبع الذي تنساب منه مياه الثقافة وحضارة المجتمعات.. وبالتالي فإن الفقر المدقع للمخرجات التعليمية المنتظرة عامل جلي في غياب خطاب الثقافة، ذلك الفقر الذي يشمل كافة مكونات المشهد التعليمي (المؤسسة التعليمية الكبرى وتفريعاتها الجزئية، والمدارس بما فيها من إداريين ومعلمين وتلاميذ، ومراكز الإشراف التربوي بمنسوبيها المشرفين والمراقبين).

هذا المشهد التعليمي الذي يفصح كل صباح عن وجوه عابسة محبطة، لا يمكن أن تبرز من ملامحها اليائسة أشياء ذات بال لخدمة الوطن المستحق..

أكثر مشاهد التلقي التعليمي لدينا، التي تنم عن غياب الخطط التعليمية المنشودة هو جهل الطالب بالغايات الكبرى للعلوم التي يدرسها وعلاقتها ببعضها البعض، وعدم التفريق بين المعلومات الجزئية، والقواعد المنهجية الرئيسة التي يجب أن ترسخ في ذهن المتلقي للأبد..

وبعد.. فإن الدور يأتي -بعد ذلك- على المؤسسة الثقافية في بلادنا، والتي يجب أن تدرك أهمية الكثير من حاجات الثقافة واحتياجات المثقفين، كأهمية أن تضطلع المؤسسة الثقافية بحاجة مثقفيها -أنفسهم- إلى تثقيف علمي يحررهم من أسر تخصصاتهم المعرفية، لسد فجوات الفراغ الفكري لديهم، إذ عندما لا يقر معظمهم بوجود هذا الفراغ فإنهم عادة ما يملؤونه بـ(مد) نطاق تلك التخصصات أفقيا، متخذين منها نوعا من الأيديولوجيات الشاملة التي يفسرون من خلالها كل شيء من حولهم، ومآل ذلك في النهاية الانغلاق في ثقافة أحادية الأبعاد، واختزال ثقافة الكون كله في عدد محدد من المقولات والنظريات، أو الوقوع في شبه العلم (quasi-science) والـ(تسطيح) المعرفي!.

إضافة إلى ذلك، فإن من المهم جدا ضرورة إدراك المؤسسة الثقافية لقيمة انسجام الخطابات المرتبطة بشكل أو بآخر بفعل إنتاج المنظومة الثقافية العامة.

فمن الضروري للمجتمع المثقف.. المجتمع الحضاري المدني، أن تنسجم كافة خطاباته، من خلال عمل مؤسساتي كلي متناسق الوظائف والغايات يربط باتساق هادف بين الخطابات المتنوعة (الدينية والتعليمية والإعلامية والاجتماعية)، فثمة تشكلات كثيرة للثقافة -على سبيل المثال- تجابه بقليل أو بكثير من رفض الذهنية الاجتماعية حتى الآن (رغم إقرارها في الممارسة السياسية للبلاد: قيادة المرأة، السينما، الحفلات الغنائية..)!

.. بعد ذلك، هل أن المؤسسة الثقافية في بلادنا أوجدت البيئة المحفزة على الثقافة؟ وهل عملت بجد على صياغة خطاب ثقافي مقنع (ومتسق مع بقية الخطابات) يقاوم هيمنة خطابات بعينها، استمرأت على استغلال الفراغ الثقافي، لبث هيمنتها على الذهنية الجمعية؟؟.

وحتى لا يمتد بنا الهم طويلا، فإني أزعم أخيرا بأن العمل الثقافي الذي تنهض به المؤسسة الثقافية يجب أن يتجه أولا و(أولا) إلى الجماهير الكثيرة خارج القاعات المغلقة في النوادي والجمعيات الأدبية الثقافية.

الثقافة الخالصة.. الثقافة المنتظرة على الأبواب.. الثقافة الفاعلة في (حل) مشكلات المجتمع وأزماته وانتكاساته، تبدأ من الوعي المؤكد بضرورة وجودها، فهل اشتغلنا بصدق عن البحث عن الوعي الخلاق الذي يقنعنا بحتمية هذه الثقافة وشروط إنتاجها؟!

(الوعي) الثقافي، ثم (الفعل) الثقافي وجهان لعملة واحدة، هي التي يمكن صرفها للعلاج والنهوض وتحقيق غايات الإنسان وحاجاته الطبيعية الملحة جدا.. (جدا)!.